أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

“المتنبي 2019”

جمال بودومة

دعك من فولار امينة ماء العينين، وتصريحات الطالبي العلمي ورد بنكيران عليه… أهم شيء يحدث في المملكة هذه الأيام هي هذه “الكلاشات” المحتدمة بين مغنيي “الراب” الحانقين على الوضع، وعلى بعضهم البعض، الذين حولوا وسائل التواصل الاجتماعي الى حلبة للمصارعة، وصنعوا فرحة جمهور متعطش لفن لا يعترف بالخطوط الحمراء…

ولان البلاد أصبحت “ورشة نجارة”، والخشب تحول الى لغة معتمدة في الحكومة والبرلمان والاحزاب والتلفزيون والجرائد، فإن “الراپ” اصبح التعبير السياسي الأكثر جرأة في المغرب. خلال رده المزلزل على “البيگ”، لم يتردد عمر السهيلي في التطرق الى كل القضايا المسكوت عنها في المشهد السياسي المغربي، بجرعة زائدة من الجرأة، هكذا سمعناه يتحدث عن أبو زعيتر والعفو الملكي عن مغتصب الأطفال دانيال ومهرجان موازين والأوسمة الملكية و”لحيس الكاپة” وابعاد بنكيران من الحكومة… بكلمات حادة كشفرة حلاقة. دروس بدا متخصصا في القتل والسحل:
“عشيري انا حاسدك/ غاتحضر لجنازتك/ وغاتشوف بنادم كيبكي عليك/ والناس غسلاتك ودفناتك”…

الحقيقة انك “منين ما ضربتي البيگ يسيل الدم”، ليس فقط لانه اقرع، بل بسبب مواقفه المتناقضة التي جعلته يفقد كثيرا من المعجبين. الفنان الذي جعل من الغضب والتمرد رأسماله الفني، وغنى “باراكا من الخوف” في بدايات الألفية، وقف ضد حركة ال20 من فبراير، وهاجم زميله معاذ بلغوات، المشهور ب”الحاقد”، في وقت كان فيه المسكين رهن الاعتقال، كما اظهر ارتباطات مشبوهة مع بعض الأحزاب السياسية، وحصل على الدعم من وزارة الثقافة لإنجاز أغنيته الفاشلة “ما بغيتش”.

عندما اخرج هذه الأغنية، اذكر انني كتبت عنه عمودا تحت عنوان “البيگ الحاقد”، عبرت فيه عن خشيتي من “أن تكون «مابغتيش» بمثابة «شهادة وفاة» لمغن واعد سقط في فخ سهل: بدأ ساخطا على كل شيء وانتهى مدافعا عن الوضع القائم، كما يصنع كل المستفيدين الذين ينسون أن الفن مقاومة لكل الإغراءات”.
وجاء « ديزي دروس » بعد ست سنوات كي يسلم له رسميا “شهادة الوفاة”:
“عارف غادي نضرّك/ غير صبر معايا/ ما بقا قد ما فات/ سميتك ديجا ماتّ/ هادي غير شهادة الوفاة”… مع تطعيم التاء بالشين، من فضلك. اذا أردت ان تكون “رابورا” محترما، عليك ان تضيف شينا للتاء. “الوفاة” تصبح “الوفاتش”. و”مات” تصبح “ماتش”. والويل والعار لمن “باع الماتش”. توفيق حازب أراد “الزبدة وفلوس الزبدة”. طمع في أوسمة الدولة وأوسمة الجمهور، وهما لا يجتمعان. يريد ان يكون صوت الغضب والثورة، وان يجني ثمار الشهرة وان تحتضنه المؤسسات. معادلة مستحيلة!

قبل البيگ ودروس وحليوة وكرايزي، كان هناك الفرزدق وجرير والاخطل والبُعٓيْث…. شعراء عدوانيون يمارسون “الكلاش” بالقصائد العمودية المقفاة، التي يصعب فهم مفرداتها اليوم، لكن يسهل ان تعرف انها مسمومة. مثلما لا يفهم الكثيرون ممن لم يتعودوا على معجم “الراب” ما يردده “البيگ” و”دروس” في “معلقتيهما”، لكنهم يعرفون ان الشتائم على أشدها و”الطايح أكتر من النايض” في الأغنيتين.

في تلك القرون البعيدة، كان التنافس بين الشعراء حادا على الريادة، كما هو اليوم بين “الراپورات”، كل واحد يقول انه “النامبر وان”. وكما جمع “البيگ” منافسيه وشرع يقصفهم بأقذع النعوت واحد العبارات، صفف جرير خصومه وأمطرهم بوابل من الشتائم والإهانات، “قلا لهم السم” بلغة العصر الذي كانوا يعيشون فيه:
“أعددت للشعراء سما ناقعا/ فسقيت آخرهم بكأس الاول//
لما وضعت على الفرزدق ميسمي/ وضغا البُعٓيْث جدعت انف الاخطل/
اذا كان البيگ “شتف” بقدمه الغليظة على ديزي دروس ورمى عليه “طفية” السيگار، و”نشر” كرايزي “سخفانا” على الارض، وربط حليوة مع اصبعه الصغير على سبيل الاحتقار، فإن جرير كوى الفرزدق، (الميسم هو آلة الكي)، وجعل “البُعيث” -وهو بحال يلا قلتي حليوة ديال ديك الوقت- يصرخ ويتألم مثل حيوان (فعل”ضغا” يقال عن الحيوان عندما يصرخ من الالم)، وكسر للاخطل المسكين انفه!

ما اشبه اليوم بالبارحة، ما اشبه “الكلاش” ب”أدب النقائض”. ولا يسعنا الا ان نشكر كل من ساهم في جعل “الراپ” مغربيا، و ب”رييرتوارا” محترم وأصوات واعدة تريد ان تذهب به الى أقصى الحدود، دون رقابة او قيود. ملايين المغاربة يستمعون اليوم الى هذا الفن الغاضب، الذي يربط الشباب مع واقعهم بلغة مباشرة وحادة، ويمنحهم أوكسجينا نقيا وسط الهواء الملوث بالروائح الكريهة والسخافات المعطرة. شباب يحلق خارج السرب، ولا يتردد في استعمال كلمات لاسعة لتمرير رسائل ثاقبة، تنطوي على نقد سياسي واجتماعي شرس. عبارات بلا مساحيق تقول ما يعجز الجميع عن التلفظ به في مغرب ما بعد “حراك الريف”، بسبب “الجبن” الذي اصبح رياضة شعبية في أوساط السياسيين والصحافيين والكتّاب والفنانين.

التعليقات مغلقة.