بين الصحراء والريف خيط ناظم وجشع مخزن

 

 

 

 

 

 

إن للتاريخ منطقا علمنا إياه، مفاده الحقيقة مهما حاول البعض بطرقه أن يطمسها أو يشوهها أو يخفيها، وان جاز لنا الوصف يمكننا القول ان التاريخ في حد ذاته حقيقة، وحتى أساطير وكذب التاريخ حقيقة تكشف هي الأخرى عن السبل التي اراد بها البعض تتضليل  الأجيال القادمة، كمن قال لنا انه ظهر للمغاربة في القمر مثلا.

ولا يمكن لنا ان نفصل حقيقة التاريخ عن الحاضر والمستقبل، وأن أي تحليل وقراءة للواقع من وحى اللحظة بقطيعة مع الماضي ودروس الماضي، لايمكن أن تكون الا كردة فعل عاطفية من منطلق ميتافيزيقي فارغة من أي محتوى علمي لفهم هذا الواقع ولإستخلاص آليات التفاعل معه تاكتيكيا واستراتيجيا.

وعلى ضوء هذا التقديم البسيط سنشرع في محاولة منا للإقتراب قليلا من مسألة بالغة الأهمية، نكشف من خلالها كيفية تعامل المخزن بعقليته التقليدية و وسائله الحديثة بين الأمس واليوم مع قضايا تبدأ بشكل بسيط، لينتهي بها المطاف في ما بعد الى واقع معقد.

ولعل المتتبع في الآونة الأخيرة للأوضاع الإجتماعية بالخصوص في الريف المغربي والحسيمة على وجه التحديد بعد مقتل الشهيد محسن فكري، سيلاحظ ان هذا الحدث يعتبر منطلقا مبنيا على تراكمات الماضي في اشتعال شرارة الحراك الشعبي بالريف، الذي أفرز من داخله قيادة بمواصفات معينة، وأفرز أيضا اشكال واساليب نضالية معينة مستمرة في تطور الى يومنا هذا، قصد تحقيق ملف مطلبي أبسط مايقال عنه، انه عادل ومشروع ومن المفترض ان يكون من البديهيات التي تم تجاوزها في دولة تحترم نفسها، وتسير نحو تنزيل مسلسل ديمقراطي او الانتقال الديمقراطي كما تزعم، وتتبجح بشعارات الديمقراطية وحقوق الانسان في منابرها الإعلامية وفي المحافل الدولية.

ولم يكن للمخزن الا أن يتعامل مع الوضع بطرقه المعهودة، بين التجاهل والتضليل وتخوين المتظاهرين ووصفهم بالإنفصاليين، وبين محاولة احتواء الوضع لصالحه بطرق رفضها نشطاء الحراك عبر ارساله لبعثة وزارية الى المنطقة, وتقديمهم لحلول لم تنفذ الى عمق الاشكال الحقيقي الذي رفع في شعارات المظاهرات السلمية، واستغلاله أيضا لمنابر المساجد في نفس الأسبوع بتكريسه للأسطوانة الشهيرة التي ملأ الدنيا بها وأصبحت ترددها أبواقه ليل نهار، وهي الخوف من الفتنة وأن نشطاء الحراك دعاة فتنة وأن الأوضاع قد تؤول بنا الى ما آلت اليه في سوريا، وأنه في نهاية المطاف ماهي الا مسألة أرزاق بين من رزقه الله الغنى والثروة السمكية والفوسفاط وبين من رزقه الفقر والجوع والطحن في حاويات الأزبال.

ورغم رفع المتظاهرين وتمسكهم بمبدأ السلمية كعنوان لفعلهم النضالي على الرغم من ذروة الاحتقان،  لجأ المخزن الى استفزاز المتظاهرين لكي يؤكد أطروحته في أن المتظاهرين خارجين عن الطاعة، وواجههم بالقمع والإعتقال والحصار عوض فتح نقاش صريح لما فيه من حلول عقلانية لمعالجة الوضع، ليساهم بذلك في فتح الصراع على ما لا يحمد عقباه حول مستقبل المنطقة، فكما قال الشهيد فرج فودة معظم النار من مستصغر الشرر، وقد تدفع الجماهير الشعبية بالمنطقة الى تغيير بوصلة الحراك من مطالب اقتصادي واجتماعية وثقافية الى مطالب انفصالية سيما و أن تاريخ المخزن أسود مع منطقة الريف وهناك تراكمات قد تصل الى حد تغير سيناريو الأحداث.

ولنا في هذا الصدد مشهد تاريخي يؤكد صحة هذا القول من حيث جشع المخزن في التعامل مع مطالب الشعب المغربي، وعدم قدرته على استيعاب الدروس والعبر من تجارب اخرى، لأنه كما قال المستشرق الفرنسي هنري تيراس Henri Terrasse، لم يشكل المخزن سوى ائتلاف مصالح إذ لم يكن فكرا بناء أو إرادة اجابية، بل كان هدفه الأسمى ينحصر في البقاء لفائدة الجمماعات والمصالح والأشخاص الذين يكونونه, هذا المنطق الذي أدى الى جانب عوامل اخرى في نهاية المطاف الى افتعال مشكل لا يجني عوائده الا عامة الشعب، هذا المشهد ليس ببعيد عن الريف، يكفيك أن تنحدر بنظرك في الخريطة قليلا نحو منطقة الصحراء المغربية.

فمشكلة البوليساريو لم تكن كذلك منذ بدايتها وكأنها مشهد تاريخي وسط فلم لا علاقة له بسابقه كما يعتقد البعض، وانما هي واقع تحولت خلاله من حركة التحرير الوطنية بالصحراء المغربية ضد المستعمر الإسباني الى حركة انفصالية, يتحمل فيه المخزن كافة المسؤولية.

وبتحليل موضوعي لسياق هذا التطور الدراماتيكي، سنجد أن المخزن تعامل بجشع وبتخاذل يظهر طبيعته مع التوجه العام للإرادة الشعبية بأقاليمنا الصحراوية وبالخصوص مع توجه بعض قادة جيش التحرير المغربي الذي كان مجال ارتكازه بالأساس في الصحراء مابين سنتي 1956 الى غاية 1960.

البداية كانت بجيش التحرير الذي كان يحمل آمال كل المغاربة في استرجاع المناطق المحتلة، والذي بقيت روحه حاضرة ومؤثرة في مجريات الأحداث سنوات بعد حله، متمثلا في حركة البصيري أو حركة التحرير بالساقية الحمراء وواد الذهب نسبة الى ابراهيم محمد البصيري الذي قاد الإنتفاضة الشهيرة، انتفاضة “الزملة” سنة 1970، والتي ووجهت بقمع دموي من طرف القوات الاستعمارية الاسبانية، واختطف خلالها البصيري دون أن يظهر له أي أثر الى يومنا هذا، ليرث بعدها الوالي مصطفى السيد هم تحرير المناطق الصحراوية في توجه يخدم الوطن دون وجود أي فكرة تصب في اشكالية الانفصال .

وقد أبرز الولي مصطفى بنفسه وللتاريخ دور جيش التحرير في المذكرة التي سلمها لقيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في يناير من سنة 1973، والتي شرح فيها بالتفصيل مشروع التحرر المشترك للوطن ككل كما جاء في دورية ” الاختيار الثوري” سنة 1977 ، اذ قال ( ظل سكان هذه المنطقة مرتبطين بنضالات إخوتهم في المغرب ولما ظهرت الحركة التحررية انظموا لها، وقد استقطب جيش التحرير في المغرب عددا هائلا من المناضلين المنتمين الى المنطقة، والذين قاموا بعمليات بطولية، كادت تحطم الاستعمار في المنطقة لولا القضاء على جيش التحرير).

لتظهر بعد ذلك نواة لمجموعة من الطلبة الصحراويين تحت لواء الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، حاملين لهم تحرير الصحراء واستكمال وحدة الوطن، وباشروا بمجموعة من الخطوات العملية، هذه التحركات التي تمحورت مابين 1970 و 1972 حول التحسيس بقضية الصحراء والتعبئة لها، والجلوس مع قادة بعض الأحزاب المحجوب بن الصديق عبد الرحيم بوعبيد، علال الفاسي علي يعتة حيث طالبوهم بمد يد العون وتوفير الأسلحة.

وكان لهم لقاء مع ادريس البصري الذي يمثل التوجه العام للمخزن والذي اخذ الأمر باستخفاف، ووفق ما قاله ماء العينيين احد الطلبة الصحراويين آن ذاك ( لم يكن يخطر في بالنا أننا نقوم بما يمكن أن يتناقض مع التوجهات الرسمية خاصة وأن الدولة هي التي وضعت ملف تحرير الصحراء وسيدي ايفني في الأمم المتحدة ).

لتأتي بعدها صدمة طنطان التي كان لها أثر بالغ في القطيعة بين نشطاء جيش التحرير والطلبة الصحراويين وبين الدولة المغربية، هاته الأحداث التي تدور رحاها حول تنظيم هؤلاء الطلبة لمظاهرة في طانطان في محاولة منهم لإستغلال موسم طانطان السنوي لكي يكون هناك اشعاع بقضية الصحراء، لكن المفاجئة أن السلطات الأمنية اعتقلت المجموعة التي رفعت الشعارات، ومن ظمنها الوالي مصطفى السيد هو الآخر، وعرضتهم للتعذيب، حيث يقول بيد الله احد المشاركين لمجلة زمان في عددها 41، ( كتبنا لافتات بالإنجليزية والاسبانية تقول لترحل اسبانيا، وكتب الوالي لافتة تقول “مع الحسن نحرر الوطن” لكن السلطات أخفت هذه اللافتة).

عرف بعدها مسلسل وسياق هذا الحلم الحامل لتحرر الصحراء منعطفا انتهى بظهور حركة انفصالية عن الوطن ككل لايتحمل فيها الشعب المغربي التواق لوحدة وطنه أي شيء، والسبب في أول وآخر المطاف طريقة المخزن في تعامله مع ارادة الشعب مهما كانت، هاته المعاملة التي تعري عن وجهه الحقيقي، وميزته التاريخية التي توارثها جيل عن جيل، والتي كشفها جون واتر بوري في كتابه امير المؤمنين الملكية والنخبة السياسية في المغرب، حينما أكد على أن طبيعة المخزن تستفيد دائما من التوتر داخل بنية المجتمع، يتغدى ويتقوى من خلال هاته التوترات وافتعالها، والتي يستغلها دائما لأخد شرعية الحكم والمخلص من كل ما يرعب المغاربة، واحتكاره للسلطة بتهميش جميع مكونات المجتمع أحزابا كانت أم نقابات وعدم السماح لها بطريقة أو بأخرى في المساهمة من أجل ايجاد حلول نهائية لمصلحة الوطن.

ولعل الخيط الناظم بين الصحراء والريف يبدو في كثير من الأحيان شديد التشابه، لعدة أسباب منها التراكمات التاريخية في المنطقة سيما بعد انتفاضة الريف 1959، وبتراكمات تعيد أبنائها الى استحضار أعلام جمهورية الريف التي أسسها شيخ المقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي ومن ناحية تشابه بعض السيناريوهات، منها بداية الحراك بشكل سلمي ورفع شعارات ومطالب عادلة، والمعاملة التي تعامل بها المخزن في مشهد وكأنه يعيد نفسه، من اسستغلال الدين، واستخفاف بوعي ومطالب وقدرة المتظاهرين، واعتقال قادة الحراك أو العقول التي تقود الحراك برزانة، وشن حملة قمعية شرسة على المتظاهرين، أعادتنا لسنوات الرصاص في عهد آخر.

لطالما أبانت المقاربة المخزنية عن عدم صلاحيتها في ايجاد حلول عملية لهموم ومشاكل أبناء وبنات الشعب المغربي بقدر ما أبانت عن انحيازها للطبقة الحاكمة في ترسيخ المزيد من أفكارها عبر ممارستها السلطوية، وما دافع كتابتنا لهاته المقالة الا خوفا من نزف مزيد من دماء وثروات وطاقة الوطن ووحدته يروح ضحيتها في آخر المطاف المواطن البسيط الذي لا يحلم بأكثر من وطن موحد يعيش فيه عيشة الكرامة متمتعا في خيراته ومتعايشا بجميع تلاوينه صحراويا كان أم ريفيا مسلما ام مسيحيا ام يهوديا كان، هذا الخوف الذي يحتم علينا عدم التخلي عن اخواننا في الريف المغربي في تحقيق مطالبهم العادلة والممشروعة, على رأسها اطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وقصد خلق تلاحم جماهيري في مواجهة غباء واستغلال المخزن الذي نتج عنه الضياع تلوى الضياع، بشعار واحد لا محيد عنه شعب واحد وطن واحد ضد الحڭرة.

التعليقات مغلقة.