عندما يعفى الشرفاء … ويكرم السفهاء

في إحدى مسرحيات النجم المصري محمد صبحي يقول:

“تشتغل كتير .. تغلط كثير…تترفض!
تشتغل نص نص .. تغلط نص نص!
ما تشتغلش خالص .. ما تغلطش خالص .. وتترقى!”

أصاب صبحي الواقع المغربي على كافة الأصعدة بل وأصاب كبد الحقيقة  وللأسف الحقيقة المرة المصابة بورم الإقالة الخبيث الذي تغلغل في جسد الوطن الحبيب ونستطيع أن نضيف جملة استثنائية تخللت ما تضمنه خطاب العرش من انتقاد شديد اللهجة للمسؤولين  المقصرين في واجبهم في القطاع العمومي وللأحزاب السياسية المخلة بمسؤولياتها، ولقد كان هذا الاستثناء عبارة عن شهادة اعتراف العرش بجهود الشرفاء الصادقين في حب الوطن والمعروفين بالنزاهة والالتزام بخدمة الصالح العام . ومعلوم أنه لولا هؤلاء الفضلاء من الرجال والنساء لتوقفت عجلة الوطن عن الحركة ، يقول الملك:”هناك شرفاء صادقون في حبهم لوطنهم معروفون بالنزاهة والتجرد والالتزام بخدمة الصالح العام”

هناك أسماء تستحق ذلك فعلاً وهناك أسماء لا ترقى لذلك ولا ألقي الكلام جزافاً وإنما القيه بناءاً على وقائع الإعفاء الأخير لكفاءات تربوية تختلف مواصفاتهم جذريا عن مواصفات المسؤولين الفاسدين ، ذلك أن أول  ما يميزهم صفة التواضع ، ومن تواضع لله رفعه ، يستأنس المواطنون بتواضعهم الذي يبعث الأمل في النفوس خصوصا عندما يعتاد المواطنون التعامل مع المستكبرين من المسؤولين الذين يعتبرون الناس مجرد حشرات . وقد  يغري تواضع المسؤولين الفضلاء بعض الجاهلين  بهم ، فيرتابون في كونهم مسؤولين حقا لأنهم اعتادوا أن يروا الكبرياء علامة خاصة بالمسؤولين  وملازمة لهم ، ولا يستقيم في أذهانهم أن يكون المسؤول متواضعا ، لأن التواضع صفة المستضعفين من خلق الله  في نظرهم . وقد لا يفارق بعض المواطنين ترقب الكبرياء عند زيارتهم للمسؤولين ، فإن وجدوا من فضلاء هؤلاء تواضعا ذهلوا لذلك، وصاروا يحكون عنه كما تحكى الحكايات العجائبية . هولاء الشرفاء الصادقون أول من يصلون إلى مقر عملهم ، ويبدؤن بتحية الأعوان والحراس ويجاملونهم ويسألونهم عن أحوالهم ، ثم يمرون بالمكاتب يلقون التحية على الموظفين الذين لا يمكن  أن يتخلفوا عن موعد العمل سواء منهم الجاد أم المتهاون لأنه لا يوجد تأخر عن العمل حيث يوجد المسؤول الذي لا يتأخر . ويعرف الناس المسؤول النزيه من حال الذي يقف بباب مكتبه ، وقد لا يقف على بابه الذي يظل مشرعا أحد، بل يراه كل من يمر ببابه وقد شمر على ساعد الجد لا يرفع رأسه إلا ليرد على تحية أو ليستقبل وافدا عليه . وإذا اقتضى الأمر أن يقف ببابه بواب أمره ألا يترك أحدا واقفا به، بل  يكلف مكتب استقبال  خاص لتوجيه الزوار إلى مختلف الأقسام والمصالح قبل أن يكون هو آخر محطة يطرقها هؤلاء إذا لم تقض حوائجهم . فهل يتركونه يعمل ؟

هيهات تم هيهات يأتي الإعفاء مباشرة لصلاحه من جهة أحسن التدبير فيها لأن مافيا الفساد فيها لا يناسبها تدبيره الحسن إلى جهة أخرى لا يدخر جهدا في حسن التدبير فيها كعادته ودأبه . وحين ينقل يودعه المخلصون بالدموع ،بينما يستبشر المفسدون برحيله ، ويجرحونه أيما تجريح ، ويسارعون إلى اغتيابه لدى من يخلفه خصوصا إذا كان من شرذمة المفسدين . ولا يتطلع المسؤول النزيه إلى  منصات التشريف والتكريم أو إلى المنابر الإعلامية، بل لا يحب الأضواء الإعلامية أصلا لأن عمله ينوب عن الإعلام في التعريف بكفاءته وحسن تدبيره وإخلاصه في واجبه .

ولا يشكو المسؤول النزيه من مشقة عمل بل يرى أنه دائما مقصرا ، ويعبر عن بالغ سعادته وهو منهمك في عمله، ويجد لذلك حلاوة لا يجدها في راحة أو استجمام . والمسؤول النزيه يجعل الوطنية من المقدسات بعد الدين ، ويرى التفريط فيها كالتفريط في الدين . ويحمل المسؤول النزيه هم الوطن والمواطنين ، ويعاني من أجل ذلك وقد يعرضه ذلك أيضا لسخرية الساخرين المتهاونين الذين لا يكفون بالدعاء على هذا الوطن بالخراب، ويتمنون إفلاسه  . ولا يضيع مجهود الموظفين المخلصين العاملين مع المسؤول النزيه ، فهو يعرف قض وقضيض موظفيه ، والمحبوب منهم عنده أكثرهم إخلاصا في عمله . ويحرص المسؤول النزيه على ممتلكات الدولة وكأنها ملكه الخاص ، وقد يعرضه ذلك أيضا لسخرية الساخرين من المخربين الذي يغضون الطرف عن كل تخريب يلحق الممتلكات العامة .

هذه بعض نماذج تصرفات المسؤول النزيه الشريف الصادق في واجبه المتجرد والملتزم بخدمة الصالح العام كما وصفه خطاب العرش ، وكما يراه المواطنون الصادقون في وطنيتهم ، لكن يبدو أن هذا الوطن شغوف بحماية المفسدين، والرمي بالنزهاء بالإعفاءات وعلى هامش الحياة السياسية والاجتماعية، حتى تحول الخوف والجبن إلى فيروسات تسكن حتى المسؤولين الصغار قبل الكبار، فلا يصيحون مما يلحق بهم من أذى خوفا من الإعفاءات غير المبررة… أليس هذا أكبر اهانة لهذه الفئة ؟

يبدو أن هذا الوطن هو الوحيد الذي يتقن مجازاة أبنائه على حسن صنيعهم بقطع رؤوسهم، و”يربي” المتسمين بالعقوق على عقوقهم، وخيانتهم للأمانة، ولعبهم بمصيره ومصير قاطنيه بالترقية في المناصب، وهو الوطن الوحيد الذي يرضى أن يبقى مسرحا يتقن فيه الجميع فن التمثيل إلى ما لا نهاية، أدوار تنتهي وتبدأ أخرى، قصص متشابهة، وسيناريوهات محبوكة، وشخصيات يتم اختيارها بعناية تامة، إنه شيء ما أشبه برقعة شطرنج، يتحرك فيها الجميع ويمكن التضحية بالجميع، حتى الجنود المطيعين… فقط حماية للقلعة…

بقلم حساين المامون

 

التعليقات مغلقة.