“جريمة المسجدين” بنيوزيلندا .. جدلية التنكيل والتقتيل على المباشر

سعيد بنيس

إنَّ فهْم السلوك الوحشيّ والإرهابي في جريمة كريستشورش بنيوزيلندا، والتي راح ضحيتها أربعون مسلما يوم أمس الجمعة، يستدعي أولا إعادةَ تعريف بنية الانتماء على أنها ليست انتماء إلى تنظيم ما، بل ولاء لطائفة (Sect)، وهي “وايت سوبريماسي” (White Supremacy)، والتي تقوم باستقطاب الأتباع بوسائط سرّية ومُغريّة. وترُومُ الوسائطُ السريّة والمُغرية، التي تلجأ إليها «الطائفة» في استقطاب الأتباع، تمجيد بعض المقولات العنصرية المتداولة، ومنها بالأساس تفوق وسمو وسيطرة ورقي البيض (Whites) عن باقي المجموعات والأعراق والأجناس.

إلا أنه مع ولوج الدائرة الضيقة للطائفة، كما في حال جميع الطوائف السرية، يتم تقديس الانتماء الأبدي إلى الطائفة باعتبارها تمثل أقوى الأجناس والهويات وأرقاها، فيتم تباعا اعتبار الجماعات الأخرى جماعات دونية وجب السيطرة عليها أو تعبيدها أو إبادتها بوحشية مفرطة.

كما أنّ هذا الاعتقاد المفروضَ على المنتسبين إلى هذه الطوائف يرتكز على توجيه أكبر شحنة وحشية ضد الآخر. لكنَّ هذه الوحشية تستعمل كذلك لضبط السلوكيات داخل الطائفة، فأي تهاون أو فتور أو خيانة أو شكٍّ في نوايا الانتماء يُقابَل بالوحشية نفسها، كما لو كانَ الفرد الذي صدرتْ عنه ينتمي إلى جنس عدُوّ.

وينتجُ عن تشبّعُ أعضاء هذه الطوائف بوجوبِ إبادة الآخر، وتوجيه أكبر شحنة وحشيّة ضدّه، وكذلك ضدَّ كلّ من صدرَ عنه فتور أوْ خيانة أو شُكّ في نواياه، خلْقُ محيطٍ ضيّق تمثل فيه الوحشية “أسمى القيم الفردية والجماعية”. والأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ، بل إنَّ الاختلال النفسي لأعضاء الطائفة ينتقلُ إلى هستيريا جماعية وابيديميا للوحشية والتقتيل .

لهذا فكيفيّة انتقال الإنسان من وضعه الطبيعي كإنسان إلى مرحلة يتّسمُ فيها بـ”الوحشيّة” تتمُّ عبر تقمُّص هويات تعويضية يصبح فيها الفرد نموذجا لـ”البطل” ولـ”القائد” و”الأيقونة”، ولعديد من الصفات الوهمية، فتُبْنى الشخصية على الأساطير المتوحشة والقاتلة، مع أنّ الأنا العميقة لازالت تتذكر ماضيها (طالب- عاطل- تاجر- عامل – سائق…).

هذه الوضعية ينتج عنها تَيْه نفسي وارتباك وجودي يتغذَّى على كره الآخر وعلى اكسنوفوبيا (العداء للآخر) مَرضية تتجسد في الوحشية والتنكيل، بل و”السعادة النفسية”، على اعتبار أن قاتل كريستشورش قام بتصوير حي لعمليته الإرهابية. فينتقل “البطل” من شخصية “الإرهابي” إلى شخصية “القاتل بالتسلسل” (Serial killer)، مع ما تحيل عليه مثل هذه الشخصية من عُقد سلوكية ونفسية متحولة وغير قارة تفاجئ المحيطين بها بالوحشية والتنكيل بالضحايا، وكذلك بعبقرية ومراوغة وامتهان دُون نظير للتقتيل والإبادة.

التعليقات مغلقة.