“دمت مائزا أيها الحميم!”

جمال بدومة

الخميس 21 مارس، يحل اليوم العالمي للشعر، واعتقد أن جميع المغاربة مطالبون بالاحتفال به كما يحتفلون بعيد العرش او عيد المسيرة او أي مناسبة وطنية أخرى، لأن اليونسكو أقرته، قبل عشرين سنة، بناء على رسالة توصلت بها من “بيت الشعر في المغرب” نهاية القرن الماضي، بدعم من عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول وقتها، الذي أخفق في تحقيق الانتقال الديمقراطي، لكنه نجح في اضافة احتفال سنوي إلى اجندة المغاربة. فشل في “الديمقراطية” ونجح في “عيد العرش”!

هناك كثير من الأوهام في عالم الشعر، وغير قليل من التنطع والسخافة، وعدد لا يستهان به من التافهين والتافهات. ولا يضحكني الا أولئك الذين يريدون الحصول على الشهرة عبر القصيدة في زمن “اكشوان انوان” و”نيبا” و”ساري كول”. لو كان نزار قباني على قيد الحياة لترك الشعر وتفرغ لنشر صوره على فيسبوك وانستغرام وسناپشات…

كتبنا الشعر لاننا كنا نشعر بالملل، ولم يكن لدينا شيء اخر نفعله. في تلك المرحلة المبكرة من العمر، كان لا بد ان نعبّر عن الأشياء التي في أعماقنا كي لا نصاب بالجنون، خصوصا نحن أبناء المدن السفلى، كما سماها عبد الله راجع، احد الذين جعلونا نتورط في الاوهام، قبل ان يرحل تاركا صرخته في وجه الرداءة: “سلاما وليشربوا البحار”. كلما قرانا ديوانا، ازداد ايماننا باننا على الطريق الصحيح، قبل ان نكتشف أننا تورطنا في الخسارة، بعد فوات الأوان.


القصة طويلة والرواية معقدة وتحتاج الى شخصيات واحداث، ولاشيء يحدث في المدن الميتة، لذلك استسلمنا لسهولة رص الكلمات جنبا الى جنب في غموض يستدعي الفضول، عرفنا انهم يسمونه “قصيدة” وأن من يصفف كلماته على ذلك النحو يسمى “شاعرا”. هكذا بكل بساطة.


كتبنا الشعر لاننا ولدنا قبل فيسبوك ويوتوب وانستغرام. كانت الوسيلة الوحيدة للتواصل مع العالم هي الإذاعة والتلفزيون، الذي يبدأ في السادسة وينتهي في منتصف الليل، بآيات بينات من الذكر الحكيم. كان في الإذاعة الوطنية برنامج مخصص للشعر اسمه “مع ناشئة الأدب”، يقدمه وجيه فهمي صلاح. اسمه ثلاثي وأنيق، لا يمكن ان يحمله الا شاعر، ليس مثل أسمائنا التي لا تليق الا بفلاح او “بناي” او حارس سيارات او بائع حشيش… كان الراحل فلسطينيا، ويكفي وقتها ان تكون كذلك كي تعتبر شاعرا لا يشق له غبار، لأسباب مرتبطة ب”القضية” ومحمود درويش وسميح القاسم، رحمهم الله جميعا. كان الباحثون عن مكان في عالم الشعر يرسلون قصائدهم الى وجيه فهمي صلاح، الذي يختار ما يوافق قريحته كل ثلاثاء، ويرتله على أسماعنا، بصوته الجهوري الآسر، الذي يجعلك تعتقد ان الشعر موجود في الحنجرة.

كتبنا خربشات وارسلناها للجرائد، وعندما نشرت في صفحات الشباب نفشنا صدورنا مثل طواويس. كانت “الاتحاد الاشتراكي” هي فيسبوك و”العلم” هي تويتر، وكنا ننشر أوهامنا الاولى هناك، ونعتقد ان نزار قباني ومحمود درويش و احمد مطر، لن تقوم لهم قائمة بعد اليوم. فيما بعد، أصبحنا نرسل أشعارنا الى مجلات في الخليج ونحصل على مكافات مالية. مائة دولار مقابل قصيدة واحدة. مبلغ محترم في تلك التسعينيات العجاف. أصبحنا نكتب “الشعر التكسبي”: ندبح القصائد كي نربح النقود وقلوب النساء.

في نهاية القرن الماضي كان الشعر في المغرب أكثر انتشارا من الزكام، والشعراء الذين يعتصمون في المهرجانات اكثر من العاطلين الذين يعتصمون أمام البرلمان، ولانهم كانوا يحسون بشعور قديم بالتشرد فقد بنوا بيتا، سلموا مفاتيحه لمحمد بنيس: بيت الشعر.

كان صاحب “نهر بين جنازتين” يحظى بالإعجاب والتقدير والغيرة والحسد، لانه رفع راية الشعر عاليا، وصنع إسما يضاهي ألمع الاسماء المشرقية، عندما يجري الحديث عن الشعر العربي الحديث يكون اسمه ثالثا بعد درويش وأدونيس، كما ان مؤلف “كتاب الحب” ظل يفتخر بأصوله الأندلسية وأفقه المتوسطي، نكاية بالشرق.


كان المغرب بالأبيض والأسود والاتحاديون يسيطرون على المشهد الثقافي، من خلال شبكة من الجمعيات الثقافية على راسها “اتحاد كتاب المغرب”، وعبر “الملحق الثقافي” لجريدة “الاتحاد الاشتراكي”، الذي كان يصنع الأصنام ويحطمها متى أراد. ولأنه استطاع ان يكرس اسمه بعيدا عنهم، كان الكتاب الاتحاديون يكرهون صاحب ” مواسم الشرق”، كما يكرهون موسما اخر هو “موسم أصيلا”، لأنه اصبح مهرجانا ناجحا، يستقطب نخبة متنورة ومبدعين لامعين، دون ان يكون لهم يد فيه. الحقيقة ان بنيس نجح في توحيدهم ضده بعد ان اصدر بحثه الجامعي حول “ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب”، تحت إشراف عبد الكبير الخطيبي، حيث جمع كل الشعراء الاتحاديين الذين سبقوه، ورش عليهم زخات مكثفة من المبيدات الحشرية، باسم لوسيان گولدمان والبنيوية التكوينية. كان مؤلف “الحداثة المعطوبة” يعتبر نفسه ماركسيا ويرى ان الشعراء الاتحاديين مجرد بورجوازيين صغار، متذبذبين وبلا وعي نظري، لذلك تهيمن على ما يكتبون بنية “السقوط والانتظار”، داعيا الى الكتابة تحت بنية جديدة سماها “التأسيس والمواجهة”… وكان الاتحاديون يقولون ان في رأس بنيس “قيسارية”، رغم ان كل واحد منهم يتمنى لو يملك مفتاحا لمحل صغير في تلك القيسارية المتخيلة.


في 1999 بعث بنيس رسالة الى اليونيسكو باسم « بيت الشعر » ليقر يوما عالميا للشعر، ودعمه عبد الرحمان اليوسفي، وتحققت “المعجزة” وأصبح للشعر يوم عالمي.

الحقيقة أنه منذ ان بُنيت للشعر دورٌ وبيوت، انهارت القصيدة. كثر الشعراء وقل الشعر. الإبداع عموما افلس منذ اصبح الكتاب يقولون لبعضهم البعض: “دمت مائزا أيها الحميم”!

التعليقات مغلقة.