اعتداءات نيوزلندا: دروس أولية

منتصر حمادة

بقدر ما كشفت تفاعلات العالم مع اعتداء نيوزلندا الأخير عن مؤشرات إنسانية إيجابية، تبشر بخير ساكنة المعمور، وتساعد شعوب العالم على مواجهة بعض التحديات الكونية المشتركة، بقدر ما كشفت أيضاً، في الاتجاه المغاير، عن مؤشرات مقلقة، صادرة عن صناع الرأي، في السياسة والدين والفكر والإعلام، فالأحرى الرأي العام.

1 ــ نبدأ ببعض الرسائل الإيجابية التي تلت هذا الاعتداء الإرهابي، ويوجد في مقدمتها المفاجأة التي ميزت تفاعل الرأي العالمي، الغربي على الخصوص، من هول الاعتداء، ووحشيته، إلى درجة استحضر معها البعض المجزرة التي ارتبطت بالإرهابي النرويجي أندرس بهرنغ بريفيك [والذي يُعرف نفسه بأن “مسيحي ثقافياً”]، عندما زار في 22 يوليو 2011، مخيماً لشباب حزب العمل الحاكم في النرويج في جزيرة أوتايا. متنكراً في زي ضابط شرطة، قبل فتح النار على المراهقين، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 85 شاباً وشابة.

كان الحدث حينها يهم نفس المجال الثقافي/ الديني، لأن الفاعل المتهم مسيحي الديانة، وكذلك الحال مع لائحة ضحايا الاعتداء الإرهابي، ولكن الأمر كان مغايراً هذه المرة مع اعتداء نيوزلندا في 15 مارس الجاري، لأنه صدر عن مرجعية عرقية يمينية متطرفة، استهدفت مجموعة من المصلين المسلمين المسالمين، من الذين لا نسمع عنهم أي قلاقل ذات صلة بالتطرف أو التشدد أو شيء من هذا القبيل، وبشهادة المسؤولين هناك، قبل شهادة الجيران أو غيرهم.

تقف هذه المفاجأة وراء التعاطف الكبير الذي أبداه الرأي العام الغربي مع الضحايا ومع المسلمين بشكل عام، وهو ما ترجمته بشكل إنساني لافت، رئيسة وزراء نيوزلندا، جاسيندا أردرن، والتي أصبحت أشبه بأيقونة سياسية إنسانية في ظرف وجيز، بسبب تميز تفاعلها في تدبير الاعتداء مقارنة مع ما عايناه في نماذج سابقة في العالم بأسره.

ومن بين المفاجآت أيضاً، أن هذا الرأي العام الغربي والذي سقط ضحية آلة إعلامية رهيبة، منخرطة منذ عقود في تمرير صور نمطية عن المسلمين ــ لأسباب يطول شرحها، منها ما يهمنا نحن، ومنها ما يهم العقل الغربي النظري ــ اكتشف أنه ربما يجب إعادة النظر في حقيقة تلك الصور النمطية، وقد تكون هذه فرصة أمام مسلمي اليوم، لإعادة النظر هم أيضاً في صورة الغرب أو الإنسان الغربي، كما هو مروجٌ له في خطاب المرجعيات اليمينية عندنا، سواء كانت دينية (الإسلاموية نموذجاً) أو المادية (اليسارية أو ما تبقى منها).

2 ــ نأتي لبعض الرسائل السلبية، حيث اتضح من خلال قليل تأمل لرسائل هذه التفاعلات، أنها غذت خطاب المشترك الإنساني، وقد اتضح لنا نحن، هنا في المجال الإسلامي، من طنجة إلى جاركارتا، أو على الأقل في مجال “الإسلام العربي”، من البحر إلى البحر، أننا نعاني خصاصاً كبيراً في الدراسات البحثية الرصينة أو حتى المتواضعة التي تشتغل على هذا الموضوع، والتي من المفترض أن تروج في القنوات التعليمية والإعلامية والتواصلية وغيرها، ويكفي تأمل التواضع الكبير الذي يهم ساحة التأليف الفلسفي العربي أو المغربي، في هذا المجال، بصرف النظر عن وجود استثناءات، يتقدمها كتاب مرجعي بعنوان “المشترك المنسي” لعالِم المنطق حمو النقاري.

ولسنا في حاجة للتأكيد على تواضع الأدبيات ذاتها في الساحة الفكرية الغربية، رغم الادعاء النظري الذي تروجه بخصوص التنوير والحداثة وحقوق الإنسان، وليس صدفة أن الراحل محمد أركون، كان من أشد منتقدي مجموعة من الأعلام الفلسفية الغربية، لأنها كانت تصرف النظر عن مكانة الإسلام في أعمالها النظرية، وخصّ بالذكر إيمانويل ليفيناس وبول ريكور وآخرين بالطبع.

ومن بين الرسائل السلبية، والتي تتطلب المزيد من الاشتغال النظري عندنا وعند الآخرين، تأمل طبيعة التفاعلات مع اعتداءات نيوزلندا، سواء تعلق الأمر بتفاعلات أتباع اليمين العرقي أو الديني في الغرب، كما تمّ توثيق ذلك رقمياً، مباشرة بعد وقوع الاعتداء، أو تفاعلات أتباع الخطاب الديني المحافظ فوق المعقول إن صح التعبير، ومن ذلك خطاب بعض الفاعلين الإسلاميين، ونقصد تفاعلات غارقة في الشيطنة والشيطنة المضادة، وتكشف عن وجود قابلية كبيرة لأن تتكرّر هذه الاعتداءات هنا وهناك (وإن كنا نعتبر الأمر متوقعاً أخذاً بعين الاعتبار وجود هؤلاء من جهة، وغياب إرادة حقيقية للحد من ترويج هذا الخطاب الاستئصالي)

هذه بعض الدروس الأولية من واقعة نيوزلندا، وبقدر ما يبعث بعضها على الاطمئنان والأمل، بقدر ما يتطلب بعضها الآخر، الكثير من التأمل والكد النظري والعملي في آن.

التعليقات مغلقة.