إغْــرَاء ثقافــة الرُحَل بطَانْاطَانْ

عبيد اميجن

عدُ موسـم طانطان الذي جرى تنظيمه جنوب المغرب يوم الجمعة الماضـي بساحة آمكار، بمثابة الملتقي السنوي الأبرز بالنسبـة للمهتمين بمسايرة حركية الثقافات الشعبيـة الخاصة بمجتمعات الرحل واعراف المجتمعات البدوية الممتدة في المجال الناطق بالحسانـية؛ فعلــى ضفاف وادي درعـة المتفرع من الاطلسي الكبيـر مزجت المجتمعات منـذ القدم أنماطا أصيلة من التراث والثقافات، تماما كما ينفث فمُ النهر ماءه في جوف المحيط.

 وعلى السهول الممتدة هنالك أنتج الانسان أشكالا متنوعـة ومتباينة من الفنون والتقاليـد المتتاغمة ماديا ومعنويا مع روافدها الحسانية الأصلية ولتشرب من ذات النهر الذي تستوطن جنباته القبائل الأمازيغية والعربية والإفريقية، ويلحظ ذلط جليا القادم إلى هذه المنطقـة في ايامنا هذه حيث لن يعدم الفرصـة لاستكشاف التراث الحسانى المعروض علـى جنبات متحف بري تتمايل على اطرافه الأحجيات والاهازيج الشعبية والموسيقى البدوية مشكلـة قنطـرة تنقل التراث الشعبي الصحراوي من المحلية الـى العالمية، ومن حالة الجمود الى التلاقح مع الثقافات المنتشرة بالمنطقة، ولم يتم ذلك دون تحفيز الدارسين على دراسة ثقافات ساكنة الصحراء وقيمها، و يوفر موســم طانطان فُرصـة غير مسبوقة للغوص في الابداعات والقيم اللامادية التي تركــها الأقدمون أسفل الوادي دون إرتهان للمتغيرالسياسي أو الاجتماعي.

في أثناء موسـم طانطان، تمكنتُ من التجوال داخل خيمةٍ عملاقـة “مَنْ لُوبرْ” كانت الجهات المنظمة قـد نصبتها لتحتضن منصة الافتتاح بالاضافة الى عرض المناظر القديمة والرسومات والنقوش التي تتبع الطقوس والعادات الخاصة بالبيظان؛ ونقلت هذه الخيمة صورة حية للمادة التراثية والتاريخ الصحراوي من داخل بيئته الأم والزائـر لهذا المتحف المتنقل لا يمكنه أن يتنكر للدور الحضاري الخلاق للانسان البدوي وقـد يتملك المرء شعـور غامر بالرغبـة فـي التنقل بين اللوحات والفناء المفروش ليقف على أغْـوار الرويات المروية والشفاهية للقبائل المتعايشة على مدى قرون طويلة في مجال صحراوي بـلا ملامح جغرافية وبلا حدود تحجبه عن السماء سـوى معالم كثبانية وتضاريس صخريـة لــم تسلم من النحت عليها نحتا، فمن خلال الأبحاث والدراسات الموفــرة والتي يعود أغلبها للباحثة الفرنسية “اوديبت دي بيكودو” – يبدو ان ارثها العلمي موضع ترحيب كبيــر بالمغرب وفـي نظـري أنا أيضا انها تستحق- يمكن للزائر متابعة التحولات المتسارعة على ساكنة المنطقة!.

أنا أقف هنا لأتحسس إرثا علميا مفصلا كانت هذه الباحثة الفرنسية قد تركته خلفها؛ وهو على كل حال ينمُ عن اغراء متبادل بين المعنية والمجتمعات البدوية بجنوب المغرب؛.. وقد تجولت طويلا أمام رسومات “دي بيكودو” المُكبـرة لحياة الرحل في تلك الحقبة من الزمن، وهنالك لوحات تتضمن أشكال الخيم البدويـة من دون تشويه أو تحامل، واذا كان من المعلوم ان الموروثات الشعبية من حكم وامثال شعبية وأغاني ورقصات وطقوس فلكلورية قد عانت من قلة التوثيق عنــد هذه القبائل لكن هذه الباحثة قد بذلت مجهودا رائعا لتدوين كل تلك المظاهر وتقديم الأنشطة التي تجسد النماذج الجمالية لحياة البداوة الأصيلة وهي بذلك تكون قـد أبقتْ للأحفاد تراثا ماديا يُعول في احيائه وتطويره على الاجيال الحالية وهـو ما يجعل هـذا الموسـم يزدهي بالرسومات السميكة  لـ”الظَبْيَة” أو “التاسَوفْرَة” الجلديـة ويعلقها في صدر معروضاته كما رسمتها الباحثة، ويـروم المنظون بذلك إلـى استكمال منظومة الحيـاة  عبــر فك شفرة العلاقة الطردية بين البداوة والتحضر، فبالنسبة لحال الموسم “البداوة ليـست نقيضا للتحضر”.

ان استنطاق الحياة في الباديـة لا يستوجب الكتابة بالحروف والكلمات المستهلكة ولكن بالألوان نفسها التي كان البدو يوظفونها على صعـيد اشيائهم واغراضهم وعلى اديم الجلود والثياب المزركشة الألوان فها هي ريشة الفنانة البارعة تعيـد تمكيننا من اعادة قراءتها والغوص في حيوات اشخاصها، وفي هذا السياق تنطبع في ذهن المتفرج اللوحـة الفوتوغرافية لذلك الكهل السوداني وهـو ينفخ في “نَيْفارتِهِ” الخشبية المجوفـة فيما يتلاعب بفتحات تجويفها بابهامه، فلكأنك وانت تتفرج عليها تفهم مدى قدرات البــدو على فــرز مخبوءاته، ان لـم تسرح بعيـدا لتتخيـل الصلات والجذور الممتدة لآلـة النفخ تلك، فالإنسانية لا حدود لها.

أما الجانب المطمور من هذه التقاليـد (على الأقل بالنسبة لنا نحن الموريتانيين) فهـو “سَكَاكُ الأتَايْ” الذي يسعف إبْريقَـهُ كل قادم أو مُغادر لخيام الموسـم؛ فطقس الأَتَايْ اصيل ومتجذر في حياة ساكنة هذا المجال الجغرافي، الذي يمتد من المغرب الأوسط إلى موريتانيا ومن شمال وغرب مالي وشرق الجزائر إلى نهر السنغال والمحيط الأطلسي حيث يصنعه الرجال وبـه تختص مجالسهم، ولــم تكن الجماعــة تنعقــد فقـط لتصنع الشاي وانما كان قرض الشعر أو لَغْنَ الحساني تقليـدا يتماشـى مع قيم الفروسيـة والتميز ويُظهر هـذا التشـارك والتفاعل أيضا توظيـف الكلمات في مجال الغناء لما لـه من أهمية وجدانية في الثقافة البدوية، لذلك فلا عجب أن راوحت أغاني الرُحل ما يشبه العمل الأدبي في تركيبتها حين تعتبر أن كلمات الأغاني أكثر أهمية من باقي عناصرها، وقـد تخرج من عُقالها العروضي وتثور عليـه حيــن يعود البدوي الى نفسه غير الميالة الى القيود والتنظيم وفي هذه الحالـة تميل الأغنية الى اسلوب البساطـة والسمو الجمالي كما يحصل في التوسل “المَدْحْ”، أو الأغنية الشعبية “بَنْجَه”، فلا نشاز ولا تكلف ولا مواربة حين تعود مجتمعات الرحل الى ذاتها.

 في هذ المهرجان (الموسم)، تستحضـر الموسيقـى الصحراوية هذه النماذج مجتمعة دون ان تقيدها عن وضع بصمتها وخصائصها على الأغنية المغاربية عموما، ومن هنا يجدر بنا ذكـر ما حققته أغاني “أمنات عيشـة” من نجاحات كبيـرة والنفس الجديد الذي أعطته نغماتها وأهازيجها للأغنية والفلكلور الحساني، فخلال عروضها بمصب “وادي درعـة” برهن أمامنا على قدرة فرقتهن على المزج بين الألوان الغنائية الشعبية والعصرية وبلهجات مغاربية مختلفة مخلوطة بالرقص واللون الموريتاني.

لا يمكن النظر الى هذه السمات دون تلمس أثر القوافل التجارية على ظهر الوديان الجافـة والانهار السائلة منـذ القرن الثاني عشـر للميلاد  حيث جابت القوافل التجارية غرب اوروبا الى افريقيا جنوب الصحراء، وكانت المواســم هذه ترتبط أساسا بسوس بالمغرب، مرورا بشنقيط وآزوكي وانتهاء بمدينة ”جني” المشهورة بتجارة تِبْر الذهب فتمبكتو، وقـد لمعَ أثر هذه المواســم على لسان ساكنة المجال الصحراوي من قبائل الرحل كما قيــد المؤرخون أثــر آمكار بحاضرة طانطان التي كانت مركزا تلتقي فيه القوافــل وعلى هذا الأساس جرت تسمية مهرجان طانطان، قبل ان يسجل الموسم سنة 2008 لدى اليونسكو بلائحة التراث اللامادي للإنسانية.     

تبعــد طانطان عن نظيرتها شنقيط بمسافة 2063 كلمترا لكنهما كانتا توءمين تجمع بينهما أواصر القربـى والمصالح المتبادلة ولــم يكــن هذا البعــد مانعا للرحل من الانتجاع فيما بين الجهتين، ولعل اعظـم دليــل على ذلك هو تلك الزاويــة المتربعة على سفوح طانطان للشيخ محمد لغظف الذي يعتقد الناس بصلاحه والذي هـو حفيــد الشيخ محمد فاضل ولد مامين المولود بأقصى الشرق الموريتاني والذي يفصل ضريحه عن زاوية حفيده مسافـة ما يزيد على 3000 ألاف كلمتر، ونفس الشيء ينطبق على عامة الناس فخلال زيارتــي لخيمة تقاليـد الأعراس على هامش المهرجان أسرت الي إحداهن بكون اصول عائلتها تعود الى مدينة أطار الموريتانية، أنه مجتمع واحد، وامتدادات عرقية وقبلية مترابطية حتى وان قطعت الحدود السياسية بينها.

في هذه الثنايا تشارك الجمهورية الاسلاميـة الموريتانية بوصفها ضيف شرف على دورته الخامسة عشـرة، والتـي تنعقــد تحت الرعايـة السامية لملك المغرب محمد السادس حيث مكنت المشاركة الموريتانية الحضــور من مُختلف الجنسيات من التعرف صوتا وصورة على مظاهر التـنوع والثــراء في الثقافات الموريتانية.

التعليقات مغلقة.