مُحاولَةٌ لِلتّفكِير فِي “التّفكِير وَمَوانِعه”…

عبد الواحد ايت الزين

“الشيء الأكثر استدعاء للتفكير هو أننا لا نفكر” مارتن هايدغر

يبدو لي أن التفكير “اليوم” اقتدار ذاتي على صيد المتعذَّر تصوُّره. إن القول إننا نفكر ليس معناه أننا كذلك فعلا. التفكيرُ شعور بعدم الأمان، لعدم الاطمئنان إلى ما نحن عليه. التفكير كفعل استجابة عميقة لنداء كانطي أمسى أشهر من أن يومأ إليه: “لتجرأ على استعمال عقلك الخاص، دون توجيه من الغير”. ألا تفكر معناه أن تفوّض أمْرَك لغيرك. ومن بين ما يحولُ بينك وبين التفكير نجد: الكسل، والجبن؛ وقد أبدع كانط في تمثّل النّاتج عنهما من إعاقة للمشي بدون عكّازات، بخاصة من حيث استلذاذ وضع “القصور” الذي يزكيه “التفكير بالنيابة”.

أن نفكّر ليس هو أن نتحدث عن “التفكير”، ولربما نُحوّل الحديث عنه إلى “الدعوة إليه”، وإنما هو أن نختلي بأنفسنا لحظات، حتى نَسْتَلّنَا مما نحن إياه، حتى تتاح لنا ملاقاة ما يمر أمامنا ولا ننتبه له. التفكير، في مقام “التفكير”، ليس قطيعة مع البداهات، ولكنه وقوف عليها، وإصغاء إلى ما جعلها تَتَبدّه، أو قل: انتباه إلى ما تعذر على آخرين الانتباه إليه. أوَ متاحٌ ذلك لكل طالبٍ له وراغبٍ فيه؟.

أن ننتشلَنا من محبطات التفكير وعوائقه معناه أن ننتشل أنفسنا من كهوف الزمن المعاصر، وأن نعي أن ما يبدو لنا بديهيا ليس كذلك دوما. التفكير حسب آيات لهايدغر إصغاء لما يتوارى خلف ما يظهر، وانتباه مباشر إلى أن “الظاهر” ليس إلا طية تحجب الظهور نفسه من أن يصير ظاهرا. بمعنى ما، يكون التفكير إصغاء لنداء بعيد من شدة قربه، بغية اكتشاف ما انسحب من أرض الحضور، منزويا في باحة خلفية منتظرا من يسمع صوته ويميزه عن همهمات الحشود، وينقذه من ركل أرجلهم وخبط اصطفافاتهم.

لم نعد أمام شكل واحد لمجاز “الكهف”، صرنا أمام مغارات عديدة، محاجرٌ تقودنا إلى كهف يتراصُّ فيه: سيّافٌ، يقطر سلاحه مدادا، يصيح في آذان متأهبة للقول: سمعا وطاعة، وقرصان، يسيل لعابه للسطو على “سفينة عزلاء”، يُشيرُ إلى صحْبه بالغزو والنهب. كهفُنا اليوم، أكثر تعقيدا من “كهف أفلاطون”، وخاصة من جهة رُعَاتِه الذين يتعهدون مُلاَزميه بالعناية والرعاية.

التفكير اليوم هو تخطٍّ للحديث عن التفكير، إلى التفكير في ما يجعل فعل التفكير ممتنعا أو متمنعا أو ممنوعا. “الامتناع” عن التفكير “اختيار”، وإن بدا طوعيّا، فإنه ليس كذلك حقا، فثمّة موانع غير مرئية، وأقفاص ذهنية، يعيش الفرد داخلها “حرية عصفور القفص”. يتعزز الامتناع عن التفكير بمختلف أشكال “السطو” على الأذهان ببرمجتها برمجة قبلية، تحملها على استعذاب الكسل، واستطابة الخمول، حيث يصير العقل مصدر شقاء لصاحبه.. وقد رمانا بها الشّاعر حين أُوحِيَ إليه قائلا: “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله…وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم”.

الامتناع عن التفكير توهم بامتلاك أسبابه وتوهم بحرية تثبيط النفس بخصوصه، لما يأتي منه من انزعاج وتعب. ليس هذا “التوهم” إلاّ جدارا حجريا سميكا بيننا وبين التفكير، يزيد من مضاعفات العلاقة المزيفة بيننا وبين أنفسنا، خصوصا عندما يهمل أن توهم الحرية أشد خطرا من بدوّ أصفادها. وحدها الأشباح لا تقاوم…

التفكير في “تمنع التفكير” ومشاقّ الطريق إليه، زيادة على ما ذكرناه من شقاء طلّابه، يفتحنا على البيئة الحاضنة للأفراد والجماعات وما يقترن بها من شروط إمّا قد تسعف على ممارسته، وإما تشل القدرة عليه. التّفكير تربية أيضا، وليست الفلسفة إلا أقوى ضروب المعرفة تعهدا بالتربية على التفكير والاعتناء بمهاراته: الأمر أشبه ما يكون بعضلة يصيبها الوهن والخمول، كلّما كفّ صاحبها عن ممارسة تمارينه الرياضية: ثمّة رياضة ملازمة لـ”رياضة بناء العضلات والأجسام” وهي رياضة “بناء العقول والأذهان”.

تريد التّفكير في “تمنع التفكير” قارن بين شكل حضور صالات ومواد وبرامج الرياضيتين معا: التربية البدنية والتربية الذهنية. هناك اقتراح آخر لا يقل طرافة عن الأول: انظر إلى ما يصرفه المغاربة على مواد العناية بالجسم، وما يخصصونه لمواد العناية بالعقل…ولك أن تنتقل إلى مخصصات الدولة والمؤسسات نفسها لهما معا…

وأمّا التفكير في “منع التفكير” فإنه يقترن غالبا بالتفكير في “الممنوع التفكير فيه”، ولنا في التاريخ قصص وحكايا للاستعبار. الممنوع التفكير فيه اليوم يقترن أيما اقتران بأحد اثنين: الدين، والسياسة. ثمة استئلاه لمواضيعهما ورموزهما في “سياقنا الإسلامي” بالخصوص، وكثيرة هي الحالات والوقائع التي استحلّ فيها البعض حياة آخرين، لاقترابهم من “المحظور التفكير فيه” دينيا وسياسيا.

أخال أحيانا أن الفرق بين(نا) وبين(هم) أننا نحوّل الممكن مستحيلا، ويحولون (هم) المستحيل ممكنا. ما معنى لا تفكر إلا في…؟ وما معنى لا ينبغي عليك التفكير في…؟ وما معنى عليك أن تفكر في…بهذه الطريقة دون غيرها؟ سياجات ذهنية صلبة، تقلص مساحة “الممكن”، لصالح توسيع رقعة “المستحيل”…لن نفكر إلا حينما نكون جاهزين لممارسة التفكير، ولن نجهز إلا حينما نعي أننا لم نفكر بعد: ذكرها هايدغر، وأضاف عليها أن امتلاكنا القدرة على التفكير رهين شروعنا فيه. شروعنا في التفكير في ما هو جدير بالتفكير علامة فتح الأبواب الموصدة لـ”الفكر”، وهذا ما ليس في إمكاننا المصادقة عليه بارتياح الآمنين…

يمكن استدعاء ما استدعاه محمد أركون في سياق نقده للعقل الإسلامي للعروج على صعوبات التفكير في مجتمعات تعاديه بشراسة: أقصد مفهوم “السياج الدوغمائي”، وما يترسمه من حدود تشاء لمستوطني أرض معرفية ما الحجر على عقولهم، وحملهم على “اتباع الرسمي” لما فيه من خير وصلاح لـ”الأمة”، بل والإيهام بأن طرائق في النظر (غالبا ما تكون موروثة وتقليدية) أفيد من غيرها في التفكير في مواضيع “الدين” و”السياسة”. خطر تقديس طرائق النظر إلى الموضوع أشد خطورة من تقديس الموضوع نفسه…

لا تتأتى خطورة الأفكار من طبيعتها (فحسب)، أي بما هي هي، لكن هذه الخطورة ترتبط أساسا بكونها تحدد زاوية النظر للناظرين…لربّما، محاجرنا المعاصرة أشد تعقيدا من كهف أفلاطون وأوهام بيكون…

أينما ولّينا وجوهنا، نلفي الشيخ إيمانويل كانط أمامنا يُيَمِّمُ قبلتنا: “إنني أسمع من كل الجهات صوتا ينادي لا تفكروا”، فألا يوجد اليوم سيّد يقول: “فكروا كما تشاؤون، وفيما تريدون، ولكن أطيعوا”…ستظل أرض التفكير أرضا جدباء بدون حرية: هذا هو الدرس الأول الذي يقدمه تاريخ الفكر…

التعليقات مغلقة.