ثريا الجامع الأعظم بتازة .. بين تاريخ وتراث ورهان تنمية..



  عبد السلام انويكًة

جاذبة ومثيرة لسؤال رمزية التراث في زمن عولمة وتدفق قيم ثقافات وغيرها هي العمارة الدينية التاريخية، لما هي عليه معالمهاالتي تملأ وتطبع مجال مدن المغرب العتيقةمن بروز وموقع وامتداد يعود لقرون.وبقدر ما تعطي لمدن البلاد العتيقة هويتها الاسلامية بقدر ما تشهد هذه العمارة على أثرسلفٍ من تشييدٍ وبناء وتميزمنذ القدم. وكانت عدد من المدن المغربية خلال العصر الوسيط قد أحيطت بعناية سلطانية غير مسبوقة، مثلمايسجل لملوك بني مرين من إغناء لهابدور علم واقامة طلبة ومدارس وزوايا وجوامع كبرى، منها جامع تازة الذي يعود الى القرن السادس الهجري باعتباره من تحف البلاد العربية الاسلامية في بعدها التاريخي الرمزي الروحي. وقد عُرفت هذه المعلمةالشامخة بهذا الاسم منذ زمن العصر الوسيط، وحظيت باهتمام ورعاية الملوك المرينيين الذين جعلوا من تازة عاصمة مؤقتة لهم.

وفي علاقة بجامع تازة التاريخي الموحدي المريني،كانت دولة الموحدين التي حكمت البلادالى غاية منتصف القرن السابع الهجري بتقدم عمراني معبر جعلها بمنزلة وموقع حضاري رفيع. عِلماً أن ما هو زخرفة في بداية فترة حكم عبد المومن بن علي الكًومي كان بحرج فكري جعل البناء في عهده خالياً من كل زخرفة سيراً على نهج ابن تومرت في ثقافة تقشف وزهد. لكن ما أن فتح عبد المومن بن عليبلاد الأندلس حتى بدأ ينهل من حضارتها وعمارتها وبدائع زخارفها لكي لا يوصف بتخلف عما بات تحت نفوذه من أقاليم جديدة، فكان أول عمل له في فن البناء والتشييد بعد فتح تازة هو جامعها الذي كان يشبه في تخطيطه تخطيط جامع تنمل.

وقد تم بدء بناء جامع تازة عند تأسيس عبد المومن بن علي لتازة عام 529ه، مشتملا في بنيته الأولى على بيت صلاة من ثلاث بلاطات وأربعة أساكيب. مع أسكوب محراب بثلاث قباب وبصحن الجامعمجنبتان متصلتان ببلاطين شرقي وغربي لبيت الصلاة، وقد وضعت الصومعة في ركن الجامع الشمالي وكان ما أضافه بنو مرين من زيادة في بيت الصلاة واضحاًوبنوع من التميز عن عمارة الموحدين. وحتى يكون جامع تازة ظاهراً من جميع الجهات ومن بعيد أيضاً تم تشييده في موضع يعد نواة للمدينة، بموقع مرتفع في جزئها الشمالي يطل من خلاله على ممر شهير يصل شرق البلاد بغربها وجبال الريف بالأطلس، ولعل ما أخذ بعين الاعتبار في اختيار موقعه المتميز جعله بخاصية مجالية متفردة في البلاد الاسلامية.

وتؤكد ميزة اتساع صحن جامع تنمل شكل صحن جامع تازة الموحدي، الذي ورث شكله عن مساجد دولة المرابطين بفاس التي يعتبر مسجد قرطبة نموذجها الأول. مع أهمية الاشارة في هذا الاطار الى أن الموحدين بنوا مساجد عظمى داخل المدن المغربية التاريخية، حققت تقابلا في داخلها وخارجها وبدت أكثر انتظاماً وفخامة من الجوامع الأخرى. وجامع تازة الشهير بالمغرب والغرب الاسلامي والذي شكل انتقالا بين عمارة الموحدين وعمارة المرينيين، يرجع الى أواخر القرن السابع الهجري691ه زمن أبي يعقوب يوسف الذي كان وراء زيادة فيه، حيث أصبح الجامع يشتمل على سبعة بلاطات وثمانية أساكيب وتميزت أسطوانة محرابه المريني الجديد بأروع قبة اسلامية.

وكان للوح تأسيسي عبارة عن نقش يخص ما أضافه ملوك بني مرين من زيادة على ما كان قائماً على عهد الموحدين، فضل في فك غموض يهم تحديد معالم الجامع الموحدي وحدودهمع أسماء وتواريخ مساعدة. وقد جاء هذا النقش بخط مغربي من خمسة عشرة سطراً، يحتوي كل واحد منها على سبع كلمات وبه أخطاء إملائية على الشكل التالي :”أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد، أما بعد أمر أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي يوسف أسماه الله وخلده ببنا الزيادة التي زيدة (كذا) في هذا الجامع شرفه الله، وذلك أربعة بلاطاة (كذا) في قبلته وبلاطان شرقي وغربي(مع) الصحن الذي وابتديء في مفتتح ربيع الأول من العام المنصرم(..)، وكان الفراغ منه أواخر شوال إحدى وتسعين وستمائة”.

وحول جوامع المغرب خلال فترة المرينيين بالمغرب لا نجد ما هو شاف من المعلومة التاريخية حول سبل الانارة بها، فالاشارات الوحيدة في هذا الباب تلك التي تهم فاس وسبتة وتازة وتهم ما يتعلق بالثريات واستعمال زيت الانارة. وكان صاحب”روض القرطاس”قد أورد معطيات بقيمة هامة حول ثريا تازة، مشيراً لتاريخ صناعتها 693ه بعد الانتهاء من توسيع جامعها من قِبل يوسف بن يعقوب المريني. اضافة لكلفة صناعتها ووزنها وعدد كؤوسها. قائلا:”وسنة ثلاث وتسعين وستمئة فرغ من بناء جامع تازة، وعملت الثريا وزنها إثنتان وثلاثون قنطاراً من النحاس وعدد كؤوسها خمسمئة كأس وأربعة عشر كأساً، وأنفق في بناء الجامع وعمل الثريا..ثمانية آلاف دينار ذهباً.” وثريا جامع تازة هذه مكونة في قسمها الرئيسي من شكل مخروطي صنع من البرونز، بشعاع مترين وخمسة وأربعين سنتمتر وبعلو متر واحد وأربعين سنتمتر.

واضافة لما تتميز به هذه الثريا في بلاد المغرب والغرب الاسلامي والعالم الاسلامي عموماً، فالذي يزيد من تفردها كون جزئهاالأسفليحتوي قصيدة شعر منقوشة عليه، بمعاني بالغةلشاعر مجهولالى حين ما هو مؤسَّس، وهي قصيدة شهيرة عند أهل تازة لارتباطهموجدانياً بهذه التحفة الفنية المرينية التي زينبها جامع مدينتهم الأعظم، اعترفاً بفضلها وفضل موقعها وأهلها زمن نشأة دولة بني مرين. ولعل من الاشارات الهامة التي تحتويها هذه القصيدة، هناك تاريخ تعليقها 694ه بخلاف ما هناك من لبس تعبيري فيما جاء عند ابن أبي زرع، ما يطرح سؤال تأخير ونقل وتعليق هذه الثريا في جامع تازة. وكان الوزير الاسحاقي عند زيارته لتازة في اطار رحلة حجية شهيرة، قد أورد في مذكراته أنمن جملة ما رآهوأثار انتباهه في هذه المدينة ثرياهاالعجيبة التي يضرب بها المثل،مشيراً الى أنها لا مثيل لها وأنها عنقود عظيم مرصع بمراكز قناديل متماسكة في الهواء بسلسلة نحاسية وعليها أبيات شعرية منقوشة.

      وإذا كانت ثريا تازة تشكل بحق عملاًوصنعاً وابداعاً ونبوغاً حرفياً مثيراً، فإن أصولها تنحدر من نموذج موحدي سابق هو ثريا جامع القرويين التي أنجزت بداية القرن الثالث عشر الميلادي بأمر من السلطان محمد الناصر، وتتكون الثريتين تلك التي بتازة وفاس معاً من قاعدة سفلى بطبقات محاطة بجسم دائري كان مخصصاً لحمل قناديل يسرج بها الزيت.

يبقى أن ترثا تازة هذه التحفة الفنية المرينية المتفردة التي تسكن جامع المدينة الأعظم منذ نهاية القرن السابع الهجري، باستثناء ما ورد عنها من اشارات محدودة في نص ابن أبي زرع التاريخي الأصيل، وما ورد عنها أواسط القرن الماضي في مؤلف”هنري تيراس” القيم الذي خصصه لتاريخ جامع تازة، ولعله دراسة بمحاور متكاملة جاءت بمعطيات على درجة عالية من القيمة العلمية التاريخية حول ما هو حضاري وعمراني يخص هذه المعلمة الدينية الشامخة، بالنظر لما احتوته من أسئلة عميقة وتحليل ومقارنة وأشكال قياس وتصاميم وأبعاد هندسية وغيرها. يبقى الذي يسجل باستثناء هذه الاشارات المصدرية المحدودة مع احاطات ارتبطت بدراسات لفرنسيين تعودلفترة الحماية، هو أنه ليست هناك أية أبحاث دقيقة تاريخية وأركيولوجية حديثة العهد توجهت بعنايتها لهذه المعلمة، من أجل تنوير وتنقيب وكشف ومعرفة وتحليل…أوسع يخص عدد من جوانبها التي تحكمها أسئلة عدة عالقة في حاجة لأجوبة علمية شافية مؤسَّسَة. ناهيك عن كون هذه الثريا المتفردة التي يزخر بها تاريخ وتراث وعمارة تازة التاريخية، لا تزال بدون اشعاع مؤثر ايجاباً على المدينة من حيث ما يمكن أن تسهم به في التنمية المحلية عبر أساليب ادماج وتدبير عقلانية، من شأنها تحريك وانعاش وانقاذ المجال العتيق لتازة الذي بات بشبه موت سريري منذ سنوات إن لم نقل منذ عقود.

مع أهمية الاشارة حول ثريا تازة المتفردة، الى أنه حتى وضعها الحالي وفكرة إحاطتها وعزلها بسياج خشبي من الأسفل كيفما كان مبرر الفكرة وهذا الاجراء، أثر على مشهدها وجماليتها وقوة تعبيرهندستها وشموخها التاريخي وقيمتها الحضارية وعظمة محتوياتها وطريقة تعليقها واثارتها لكل زائر و متأمل وباحث..، بل وضعها الحالي على إثر هذا الاجراء والعزل غير المناسب استيتيقيا، جعلها باهتة ما بموقع ليس الذي ينبغي أن يكون وهي تتوسط جامعاً تاريخياً موحدياً مرينياً شامخاً منذ نهاية القرن السادس الهجري. وكيفما كان مبرر الاجراء فإن فكرة سياج محيط بها أفقدها كثيراً من هيبتها واثارتها، وأسهم الى حد ما فيتغييب جمالها وتفردها وشكلها وتموقعها وما تضفيه من تكامل على محيطها فيما وضع حولها من أشرطة وروبورتاجات وغيرها، بل في تسطيح قيمتها والتقليل من شأنها التاريخي والاستخفاف برمزتها خاصة وأنها تسكن وتزين جامعاً من هو أقدم وأعرق جوامع ببلادنا، بقدر ما ينبغي أن يحظى به من عناية بقدر ما ينبغي أن تحاط به تحفه من رعاية وصيانة وإبراز وتعريف، حفظاً لعبقزمن جامع تؤثثه أعظم ثريا في المغرب والغرب الاسلامي والعالم الاسلامي، الى حين حسن استثمار ما هو تاريخي رمزي وما هو مادي ولا مادي تراثي، بجعل موارد زمن تازة ضمن أسس رهان تنمية استشرافية بها ومستدامة.

  باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس مكناس

التعليقات مغلقة.