لِتَعْرِفُوا مَنْ هؤلاء الذين رَكِبُوا بحر السِّيَّاسَة باسم الدِّين

 د. صلاح بوسريف

النُّزوع السلطوي، هو ما أفْسَدَ الأحزاب، وجعلها تكتفي بالحُكْم، دون أنْ تكونَ أحْزابَ مبادِيء وبرامج، والوطن عندها يكون فوق كل شيء. أعني أنَّ مفهوم «النِّضال» عند هذه الأحْزاب، لم يَعُد وارِداً، إلا بمعنى الكَسْب، كسْب مزيد من المَقاعِدِ، ومَزِيدٍ من الأصْواتِ للاسْتِفْراد بالسُّلْطَة، والتَّحَكُّم في مواقِعِ القرار.

عبارة «الحِزْب الحَاكِم»، صارَتْ، في هذا السِّياق، تَعْبِيراً عن هذا الهَوَس، الذي باتَ هو ما يُؤَجِّج الصِّراعاتِ والخلافَاتِ بين الأحزاب، رغم أن الحِزْبَ الغَالِبَ، لا يكون، في العادة، حزباً مُطْلَق اليَدِ، ويَكْتَفِي، في تشكيل الحكومة بنفسه، دون حُلفاء. وهو تعبير، أيضاً، عن المَعْنَى التَّسَلُّطِيّ الاسْتِفْرادِيّ، وهذا ما عِشْناه مع «حزب العدالة والتنمية»، الَّذِي هو مَنْ يقُودُ التَّفاوُض لتشكيل الحكومة، وهو رَأْس الحكومة، و هو مَنْ عَيَّنَهُ المَلِك، وفق ما نصَّ عليه دستور البلاد.

هذه الهَيْمَنَة، أو الرَّغْبَة في الهَيْمَنَة، وفي إفراد الجَنَاحَيْن على زُرْقَةِ السَّماء ورَحابَتِها، رأَيْناه مع رئيس الحكومة السَّابق، وهو مِنْ نفس الحزب، حِينَ رَغِبَ في فرض إرادته على الحُلَفَاء، بعدم قبول حزب «الاتِّحاد الاشتراكي»، في التَّعْدِيل الحُكومِيّ الذي كان مُكَلَّفاً بالقيام به، اعْتِباراً لِما له من أغلبية عددية، أو هو، بالأحرى «الحزب الحاكم».

اليوم، وبالمَلْمُوس، هذا الحزب، لم يَعُد يقبل بوجوده، أقَلِّيَّةً، أو بَعْضاً من التَّحالُف، بل إنَّه، وبما يمكن اسْتِشْفافُه من خطاباتِه، أو خِطابات بعض وزرائه، فهو لم يَعُد يَرَى نفسه خارج المرآة، أو أنَّه وَجْهٌ من وجوهها، فهو ينظر إلى نفسه باعتباره ماء المرآةِ، وغيرهُ ظِلالها، أو ما يَجْرِي فيها من تَخاييِل وتوهُّمات. هذه العقلية، هي نفسُها التي رأيْناها في تركيا، في الانْتِخابات البلدية الأخيرة، حين طَعَنَ أردوغان في فوز المعارضَة اليَساريَّة بأكبر بلدية، وهي إسطنبول، التي كان هو مِنْ قَبْل مَنْ يُدِيرُها. والطَّعْنُ في ذاته، يعكس الرُّؤية الاستفرادية الاسْتِبْدادية الكُلِّيَانِيّة التي هي ثقافة الإسلاموِّيِّين، في بلاد الإسلام قاطِبَةً، حين يصلون إلى مكانٍ مَّا بالانتخاب، فَهُم، بمجرد أن يذُوقوا حلاوة السلطة، يتمسَّكُون بها، وأيّ هزيمة تُحِيقُ بهم، يعتبرونها تآمُراً وانقلاباً، ويطعنون فيها، أو يُجَيِّشُون تابعيهم للتَّظاهُر والاحتجاج، لأنَّ الديمقراطية والتداوُل على الحكم، ليست ثقافة عندهم، ولا يُؤمِنُون بها. إِمَّا نَحْنُ أو الطَّاعُون.

يمكن، هنا، أن أُشيرَ إلى العبارة الشهيرة لأحَد زُعماء «جبهة لإنقاد» في الجزائر، حين فازُوا بأغلب الولايات الجزائرية، بأن «الديمقراطية هي شكْل من أشكال الكُفْر»، والرَّجُل كان قَبِل بـ «الكُفْر» حين دخلت الجبهة للتَّباري على مواقع القرار. ما يكشف حقيقة هذا العقل الديني الذي يلبس قَمِيص السِّياسة، فهي عنده مُجرَّد قَارَب للعبور إلى الضِّفَّة الأخرى من الماء، وبعدها يُلْقُون الحَبْل في المَاء، فقط، لأنهم عَبَرُوا، وهذا، كما يُفَسِّرُونَه، هو ما أُمِرُوا به، لأنَّ من بَقِيَ خلفهم هم «ليسُوا مِنَّا»، كما يقولون دائماً، ولو كانوا مُسْلِمِين، لأنَّهُم «ليسوا على اعْتِقادِنا ومِلَّتِنا».

إذا كانت الأحزاب السِّياسية، تخلو من البرامج، تخلو من الأفكار التي فيها ابْتِكار وتجديد وإبداع، وفيها تقاسُم وتداول على السلطة، داخل الحزب وخارجه، وتخلو من التربية أو الثقافة الديمقراطية، والسَّابق فيها لا يفتح الطريق أمام اللاحِق، وهي أحزاب فيها الكثير من خصال الشُّموليَّة والتَّسَلُّط، أو فكر الحِزْب الحاكم، فالإسلامويون، بحكم جهلهم بالسياسة، لأنها عندهم ذريعة، فقط، فهم أشدّ ضراوة وتسلُّطاً، لأنهم يظنُّون أنهم يحكمون بالدِّين، وأنهم خُلفاء الله في الأرض، وأنهم ينطقون بالحقّ، وغيرهم باطل، وهذا، في ذاته، هو الخطر الذي يجعل التَّطرُّفَ عندهم، هو دَمُهُم، مهما تَظَاهَرُوا بالاعتدال والتَّسَامُح والحوار. انظُرُوا خطابات بنكيران، وكلامُه الذي يتلوَّن بتلوُّن المكان الذي يوجد فيه، فهو لم يَسْتَطِع أن يخرج من جُبَّةِ الدَّاعِيَّةِ الذي يَعِظُ ويُدْخِل النَّاس إلى الجَنَّةِ، ويُخْرِجُهُم منها متى شاء، وما صدر عن أحد نواب حزبة في البرلمان، من ترهيب للمتوِّعات البلجيكيات، اللواتي عرَّض حيتهُنَّ للخطر، لِتَعْرِفُوا مَنْ هؤلاء الذين رَكِبُوا بحر السِّيَّاسَة باسم الدِّين.

التعليقات مغلقة.