“في ظل وادي الموت”*

جمال بدومة

… نحن أيضا كان لنا ملعب يتحول الى “مسبح” عندما تسقط الأمطار. كنا نسميه بكل بساطة: “الواد”. عبارة عن مربع رملي، في الجزء الناشف من واد اوطاط في مدينة ميدلت. كنا نلعب فيه مباريات حاسمة، فيما بيننا وضد الأحياء المجاورة، ولم يسبق ان غرق احد من اللاعبين او الجمهور الذي يحج لمشاهدة المباريات الساخنة، لحسن الحظ.

كان الواد يفيض دائما نهاية الصيف وبداية الخريف، ويغطي ملعبنا الصغير، ومعه مساحات واسعة من الفدادين والحقول والبيوت المجاورة. السيول تجرف معها بعض المزارعين ودوابهم، وما استطاعت اليه سبيلا من الأشجار والبيوت الطينية. ولم يكن احد يتحدث عن الضحايا والخسائر، باستثناء سكان المدينة. لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي قد ولدت بعد، والإعلام الرسمي كان يرفع شعاره الشهير: “قولوا العام زين”… أقصى ما يمكن ان يخصص للكارثة هي بضعة سطور في الصفحة الاجتماعية لجريدة “الاتحاد الاشتراكي”، بأسلوب حانق، يوقعها المراسل.

في “الواد” لعبنا كرة القدم وكرة الطائرة واليد والريگبي والتنس والعدو الريفي والمصارعة الحرة…. اجل المصارعة الحرة. عندما كان مراهقان يتحديان بعضهما البعض، اثر خلاف لم ينفع معه حوار، يضربان موعدا في “الواد”، كي يتشاجرا امام جمهور متحمس، مثل فارسين من القرن الثامن عشر. يتشاجران بعنف حتى يتغلب أحدهما على الآخر، بأن يطرحه أرضا او يجعله ينزف، عندها تنتهي المباراة ويغسل المتصارعان وجهيهما في مياه “الواد” الشحيحة، قبل ان ننسحب جميعا في اتجاه البيت او المدرسة.

عندما يفيض واد اوطاط، تتحول المدينة الى سفينة نوح. ينزل الجميع ليتفرج على الامواج العكرة وهي تجري هادرة وتسحب كل شيء تصادفه في الطريق. السيول تغمر القنطرة الرئيسية، وتقطع الطريق بين مكناس والرشيدية. الناس يتفرجون على الكارثة بغير قليل من الفضول، تماما كما يحدث اليوم، الفرق انهم لم يكونوا يملكون هواتف ذكية كي ينقلوا المشهد وينشروه على “فيسبوك” و”تويتر” و”يوتوب”، ولم تكن هناك “شوف تي في” كي تستقي تصريحاتهم الخطيرة…

كانت السلطة تخاف من التجمعات الجماهيرية، وتتوجس من ” تمرد” الوادي. تخشى ان تعدي السيول الهادرة السكان، فيتحول المتفرجون الى متمردين، وينقلب التجمع الفضولي الى تظاهرة احتجاجية، خصوصا ان المبررات الاجتماعية والسياسية لم تكن تنقص أيام الحسن الثاني.

فيما المدينة برمتها تتفرج على السيول، يضرب أفراد السلطة حزاما أمنيا حول مجرى المياه، لمنع الناس من الاقتراب، مخافة ان يحدث ما لا يحمد عقباه.
أذكر جيدا ذلك اليوم الذي خرجنا فيه نتدافع قرب القنطرة المغمورة بالمياه، كي نشاهد السيول تختال بتعجرف، وتاخذ في طريقها الشجر والحجر والبشر. نهاية غشت او بداية سبتمبر. كنا في عطلة، يقتلنا الضجر، وجاء فيضان الوادي كي يسلينا قليلا. المدينة عن بكرة ابيها واقفة تتأمل الطوفان، فيما أفراد القوات المساعدة يشكلون سدا منيعا لتفادي الاقتراب من منطقة الخطر. كان في المدينة شاب اليف، في عقده الثالث، يُلقب ب “الفريكس”، لانه يصب على عنقه قنينة عطر ويطلي حذاءه بعلبة “سيراج”، قبل ان يغادر البيت… الى أقرب “بار”. لسوء الحظ، ان “الفريكس” لم يكن معروفا بالأناقة فحسب، بل بالإدمان على الكحول. يستحيل ان تلتقيه في حالة صحو.

بينما كانت السيول تتلاطم والناس يتأملونها بذهول، خرج “الفريكس” من وسط الحشود ولا اعرف كيف اخترق الحاجز الأمني، واتجه بخطوات حثيثة نحو حتفه. كان يتمايل من شدة السكر، ومع ذلك لم يتمكن المخازنية من ايقافه. الحقيقة انهم لم يبذلوا أي جهد، في الوقت الذي لم تتوقف فيه صيحات الناس لحثه على التراجع:
– آ رجع آ لفريكس!
– فين غادي آ مسخوط الوالدين؟
– وا عتقو السيد…
….
بدل انقاذ المغامر الأنيق، انهمك المخازنية في ضرب الناس الذين يطلبون منه الرجوع، في محاولة لإسكاتهم. وفيما كانت الهراوات تهوي على الرؤوس والضلوع والأكتاف، كان “الفريكس” يتوغل وسط السيول، فجاة رأيناه يسقط، ليجرفه التيار ويختفى في المياه العكرة الى الأبد!

* عنوان قصيدة مشهورة لأبي القاسم الشابي

التعليقات مغلقة.