لا رَفــاهَ… بــدون تعليــم

صلاح بوسريف
لا بديل عن المدرسة، لأن لا بديل عن الإنسان، أعني،
لا بديل عن مجتمع الرَّفاه الذي يتحقَّق باعتبار المدرسة هي رهان الرِّهانات كُلِّه.
لا يمكن الاستهانة بدور المدرسة في ما يمكن أن يجري في المجتمع من رفاه اجتماعي وفكريّ وفنيّ وعمرانيّ. أعني بالرَّفاه، غِنَى الفِكْر، وتَفتُّق طاقات الخلق الإبداع، واقتراح الأفكار، وهو ما يعني، في جوهره، تحرير العقل بتحرير الخيال، ووضع الإنسان في سياق البناء والتَّشْييدِ، أو العمران بالمعنى الخلدونيّ، الذي يكون الإنسان هو عموده، أو ما يقوم عليه من أعمدة وأحجار.

الاستثمار في التعليم، هو استثمار في العقل، واستثمار في الخيال، وهو، ما يُفْضِي حتْماً، إلى الاستثمار بمعناه الماديّ الرِّبْحِيّ الذي هو هاجس الأمم، بمختلف انتماءاتها ومشاربها. فالاستثمار، بهذا المعنى، ليس سوى نتيجة للاستثمار في العقول والمؤهِّلات والطاقات البشرية المُنْتِجَة للأفكار، التي تخلق فُرَص الشُّغْل، وتعمل على ابتكار الحلول لكل ما يمكن أن يكون سبباً في الانحسار أو التعتُّر الاقتصادي، وانكماش السُّوق.

المدرسة، إذن، هي المجتمع، هي الإنسان الذي نُؤَهِّلُه للانخراط في هذا المجتمع، ولفهم طبيعة أدواره ووظائفه فيه، وطبيعة القِيَم التي تربطُه بهذا المجتمع، وباقي الشَّرائِح الاجتماعية المُكوِّنَة لهذا المجتمع، بتنوُّعاتها واختلافاتها، وما تتميَّزُ به من تعدُّد في الألْسُن، وفي العادات والتقاليد، وفي تعبيراتها الثقافية التي إحدى لُحَم النَّسِيج العام لهذا المجتمع. ولعل دور المدرسة، يكمن في هذه اللُّحْمَةِ، التي هي وضع الإنسان في سياق معنى المواطَنَة، وما تَحْتَمِلُه من شراكة، وتعاون، وتضامن، ورغبة في البناء، والحرص على وحدة المجتمع وتكافُله.

عبر التاريخ البشري، ومنذ شرعت المدرسة في استقطاب الإنسان، وفي تعليمه وتكوينه، كان هدفها الأول، هو ضمان انخراطه في البناء، وفي العمران، وفي ضمان وحدة البلاد واستقرارها، وحمايتها من الغزو الفكري والعسكري، كيفما كانت البلاد، وأن يكون هذا الإنسان المتعلم العارف، هو من يحكم، ويتولَّى أمر السياسة والاقتصاد وتدبير الشأن العام، وتحقيق الرَّفاه، وأيضاً تكريس العدل، والمشاركة في التنمية، بكل تمثّلاتِها. فلا مجتمع جاء من خارج المدرسة، ومن خارج الثقافة والمعرفة، لأن غياب كل هذه العناصر، يعني غياب الإنسان، أو وضعه خارج المجتمع، لأنَّ المجتمع، في معناه العام، هو اجتماع وتكتُّل وعمران، وليس انفراداً أو استفراداً وانعزال.

الفراعنة الذين ما زالوا لغزاً في تاريخ العبور البشري على الأرض، وقبلهم الآشوريون والبابليون، في بلاد ما بين النهرين، كانوا بين من أدْركُوا معنى المدرسة، ومعنى القراءة والكتابة والحساب، فما أسَّسَهُ هؤلاء، وبعدهم الإغريق، كان هو ما أهَّل الخيال والعقل البشرِيَيْن ليكونا وسيلة ثقافة وعلم وعمران، بل وأدب وفن. والغرب اليوم، هو وريث لِما ذهب إليهم من هذا الماضي البعيد، وما أخذوه عن العرب، الذين كانت المدرسة عندهم إحدى أُسُس ما عرفوه من ازدهار وتطور في الطب والهندسة والعمارة والزراعة والرَّيّ، والمعرفة بأسرار الأفلاك والنجوم.

لا بديل عن المدرسة، لأن لا بديل عن الإنسان، أعني، لا بديل عن مجتمع الرَّفاه الذي يتحقَّق باعتبار المدرسة هي رهان الرِّهانات كُلِّها، وأن كُلّ الجهد والطَّاقة والمال، ينبغي أن تُسْتَفْرَغ في التثقيف، والتكوين، وكسب المعارف والتجارب والخبرات، وتفتيق العقول والأخيلة، أي أن تُسْتَفْرغ في المدرسة، في تجهيزها بأحدث التقنيات ووسائل التعليم الحديثة، وتَحْيين مقرراتها وبرامجها ومناهجها، ومواردها البشرية، بما يُسايِر ما يجري من تغيُّر في العلوم ووسائل نقل المعرفة، وتسهيل طرق إبلاغها. فلا مدرسة بدون مختبرات، وبدون أدوات عمل، تسمح بالانتقال بالدرس من التجريد إلى التجريب، ومن النظر إلى العمل والمُعاينة المباشِريْن، خُصوصاً في دروس الفيزياء والكيمياء، وغيرها مما يقتضي الخروج إلى الطبيعة لمواجهة الأمثلة والنماذج في مكامنها، لا عبر الرسوم النظرية التي تبقى ناقصة، ولا تضع التلميذ في مواجهة المثال في عَيْنِيَّتِه.

هل بلغْنا هذا؟ هل المدرسة عندنا تَتوفَّر على بعض ضرورات التعليم وأساسياته؟ هل تُجدِّدُ المدرسة فكرها وخيالها؟ وهل تُجدِّد مناهجها، وطرق تدريسها وبرامجها، ووفق أي حُجَّة ومنهج، أو بالأحرى، وفق أي أفق وتصوّر، ومن كانوا وراءه، ولأيّ هدف؟

هذه الأسئلة وغيرها، تجعلنا ننظر إلى المدرسة، في واقعها الراهن، بنوع من الارتياب وعدم الاطمئنان، فما نريده من المدرسة، أكبر مما تريده المدرسة من نفسها، وهذه هي المسافة التي تفصل بيننا وبين التعليم الذي لم يعُد، بعدُ، ماء وهواءً، وبات نقطة ضعف واضطراب، بل وتَخبُّط كبير، يشبه حكاية الغراب الذي أراد أن يتشبَّه بالحمامة.
 

التعليقات مغلقة.