مراكش:كلمة السيد وزير العدل بمناسبة الندوة العلمية المنظمة بشراكة بين رئاسة النيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية

شرف واعتزاز كبير أن أحضر معكم اليوم هذه الندوة العلمية الهامة لمواكبة أشغالها نيابة عن السيد وزير العدل الذي تعذر عليه الحضور لالتزامات مهنية خارج أرض الوطن.

وهي مناسبة أستغلها لتقديم الشكر للجهة المنظمة على دعوتها الكريمة، ومن جهة ثانية على هذه المبادرة الهادفة نحو فتح نقاش قانوني وقضائي رصين وهادئ حول أحد المواضيع الهامة التي لن أقول أنها طالها النسيان ولكن لازمها السكوت والتردد ولم تكن الجرأة الكافية لتناولها بالشكل اللازم.

فإذا كان الحديث عن الخطأ القضائي قد يكون فيه نوع من الحرج لأنه يضعف الحقيقة القضائية ويعكر في بعض الأحيان صفو المجتمع وثقته في القضاء، فإن من الواجب التأكيد أن العدالة التي تقر بأخطائها وتقوم بتصحيحها هي عدالة لا يمكن أن تكون إلا باعثا على الثقة والاحترام وتضفي على عملها المصداقية والأمان، وهو ما يحسب للجهة المنظمة التي طالما برهنت على نبل قراراتها وشجاعة مبادراتها تحت إشراف هرمين قضائيين كبيرين في شخص السيد الرئيس المنتدب والسيد رئيس النيابة العامة، فالخطأ ببساطة ملازم للبشر، فبالأحرى القاضي الذي لا يشتغل في مكان معزول وإنما يشتغل في محيط محفوف بالمخاطر بسبب تعدد الفاعلين من أطراف وشهود وخبراء ودفاع وموثقين وعدول وكتاب ضبط، فبقدر ما قد يكون الخطأ ناتجا عن عوامل ذات صلة بالقاضي من خلال الانطلاقة غير الموفقة للنزاع بسبب عدم ضبط نطاقه وتحديد حقائقه مثلا، بقدر ما قد يكون السبب المفضي إلى الخطأ القضائي مرتبطا بفساد ذمم شهود أو زيغ رأي خبير أو ضعف إقناع لدى الدفاع أو اعتراف كاذب للمتهم أو بحث جنائي محرف أو ضغط للرأي العام هب لمناصرة قضية غير عادلة أو تأثير لوسائل الإعلام.

وإذا كان الخطأ القضائي يتخذ صورا متعددة فإن الخطأ القضائي في الميدان الجنائي يبقى أشدها لارتباطه بحرية الفرد وقرينة البراءة كإحدى أهم المبادئ الكونية المؤطرة للعدالة الجنائية، ومن أهم ضوابط المحاكمة الجنائية العادلة وركيزة من ركائز بناء دولة الحق والقانون، وكذا لتأثيره البالغ على ضحاياه وحجم معاناتهم في رحلة البحث عن تعويض عادل.

ومن أهم صور الخطإ القضائي في الميدان الجنائي نجد سوء تقدير الاعتقال الاحتياطي من زاوية كونه ينطوي على حرمان الفرد من حريته بإيداعه في السجن قبل إدانته بحكم مكتسب لقوة الشيء المقضي به، والذي قد يتجسد في صورة اعتقال احتياطي تعسفي خارج الضوابط المسموح بها قانونا، أو في صور اعتقال احتياطي غير مبرر ينتهي مفعوله بقرار بعد المتابعة أو بصدور مقرر قضائي بالبراءة أو سقوط الدعوى العمومية أو بانعدام المسؤولية الجنائية حسب الحالة.

و هنا يطرح التساؤل حول حكم التعويض عن الاعتقال الاحتياطي دوليا ووطنيا?

حضرات السيدات والسادة الافاضل

بالرجوع ألى الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان نجد أن أغلبها ينص على مبدأ وجوب تعويض ضحايا العدالة، إذ نصت المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان على أنه لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفيا. والمادة 5 من الاتفاقية الاوروبية لحماية حقوق الانسان والحريات الأساسية الصادرة لعام 1950 على وجوب تعويض الأشخاص الذين يكونون ضحية توقيف او قبض مخالف للقانون. وعلى هذا الأساس تنص الفقرة الرابعة من المادة 9 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أن لكل شخص حرم في حياته بالتوقيف أو الاعتقال حق الرجوع إلى المحكمة لكي تفصل هذه المحكمة دون إبطاء في قانونية اعتقاله، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاعتقال غير قانوني.

و أضافت الفقرة الخامسة من نفس المادة أنه من حق المتضرر الحصول على تعويض بسبب التوقيف أو الاعتقال غير القانوني. كما تركت للدولة التي صادقت على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية مطلق الحرية في تحديد كيفية تنفيذ مبدأ أحقية التعويض سواء بإصدار قوانين خاصة أو بتضمينها في القوانين الوطنية ذات الصلة كقانون المسطرة الجنائية.

وانسجاما مع هذه المبادئ والقواعد الدولية، فقد اهتمت مختلف الدول المتقدمة في تشريعاتها المسطرية،بمبدأ التعويض عن الاعتقال الاحتياطي غير المبرر، خصوصا بعد انعقاد المؤتمر الدولي السادس لقانون العقوبات، المنعقد بروما 1953 حيث جاء في التوصية 17  منه على أنه” يجب على الدولة تعويض المحبوس مؤقتا في حالة ارتكاب خطأ قضائي ظاهر، إذا كانت الظروف تشير ألى أن الحبس اكتسب صفة التعسف”.

فالقاعدة التقليدية التي كانت سائدة سابقا تقضي بعدم مسؤولية الدولة عن أعمال القضاء إل في حالات استتنائية تكريسا لفكرة سيادة الدولة وحجية الامر المقضي به، إلا أن هذه الفكرة بدأت تتغير تدريجيا منذ سنوات وتحديدا في فرنسا بعد صدور قانون 5 يوليوز 1972 الذي أدخل تعديلا على التنظيم القضائي الفرنسي و أقر مسؤولية الدولة عن الاضرار الناشئة عن الأداء المعيب لمرفق القضاء في حالتين فقط هما الخطأ الجسيم وإنكار العدالة بعد نقاش طويل وعميق مهد له مجموعة من الفلاسفة أمثال فولتير وزولا عقب تسجيل حالات عديدة لأخطاء قضائية سجلت بمداد أحمر في تاريخ العدالة الجنائية الفرنسية.

-هذا  ومن خلال التجارب الدولية المقارنة في مجال التعويض عن الاعتقال الاحتياطي يمكن القول على أن هناك توجهان، أحدهما تمثله المدرسة الانجلوساكسونية التي خلقت لجان إدارية وطنية على مستوى وزارات العدل كتجربة المملكة المتحدة(UK) والتجربة الكندية، والثاني تمثله المدرسة اللاتينية الجرمانية التي اعتمدت آلية قضائية كما هو الحال بالنسبة للمشرع الفرنسي الذي منح حق التعويض للرئيس الأول لمحكمة الاستئناف مع إمكانية الطعن في مقرره أمام لجنة وطنية لدى لدى محكمة النقض وهمو ما أخذت به أيضا التجربة التونسية في سنة 2002 والتجربة الجزائرية في سنة 2007.

أما في بلادنا فقد تعهد المغرب في كل دساتيره السابقة باحترام حقوق الانسان كما هو متعارف عليها دوليا، فقد تعهد المغرب في كل دساتيره السابقة باحترام حقوق النسان كما هو متعارف عليها دوليا، وعلى رأسها الحق في الحرية والحياة والكرامة، وحرص أن يجعل تشريعه الداخلي متناغما مع المواثيق الدولية التي قبلها وصادق عليها دون تحفظ ومنها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، قبل ان يتوج هذا المسار بإقرار مسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي الذي يعد من أهم المستجدات التي جاء بها دستور 2011 ليشكل ثورة في مجال تكريس مبادئ العدالة الجنائية، والذي تجاوز من خلاله العمل بمسؤولية الدولة عن الخطأ القضائي كاستثناء، واخضع جميع أعمال القضاء للقواعد العامة للمسؤولية،وهو ما حذا ببعض القضاء المغربي الى اعتماد هذا النص المبدأ الدستوري في اعتبار مسؤولية الإدارة غير مقصورة على فكرة الخطأ فقط، وإنما اقامتها على أساس نظرية المخاطر، بمعنى أنه يكفي ان يثبت المتضرر العلاقة السببية بين الضرر الذي لحقه ونشاط الدولة للقول بقيام مسؤولية الأخيرة ودونما حاجة الى اثبات خطئها أي ان الدولة تكون ملزمة بتحمل مخاطر الاضرار التي تسببها اعمالها ونشاطاتها، وأن مسؤولتها عن ذلك تندرج في اطار المسؤولية عن المخاطر التي تتحقق بمجرد حصول الفعل الضار واثبا المتضرر كون الضرر الذي لحقه ناتج عنه مباشرة، بصرف النظر عن وقوع الخطأ من طرف الإدارة من عدمه ومدى جسامته وتوفر لدولة على الإمكانيات الفعلية لتجنب الفعل الضار من عدمه ( قرار لمحكمة الاستئناف الإدارية بمراكش تحت عدد 335 بتاريخ 19 فبراير 2015 في الملف عدد 1642-1914-2013 وحكم عدد 560 صادر عن إدارية مراكش بتاريخ 9 أكتوبر 2019 في ملف القضاء الشامل عدد 683/7112/2018). في خحين أسس قضاء آخر فكرة استحقاق التعويض عن الاعتقال الاحتياطي على أساس عدم مشروعية قرار الاعتقال المتخذ من طرف النيابة العامة فاقر بأنه “اذا كانت سلطة اتخاذ قرار الاعتقال الاحتياطي المبنية على الملائمة لا تجعل من هذا القرار خاطئا عند تقديره من طرف النيابة العامة، فان ثبوت البراءة القطعية وليست تلك المقررة لفائدة الشك تكشف مدى صحة هذا الاجراء ومشروعيته… ولئن كانت سلطة النيابة العامة تقديرية عند اتخاذ قرار الاعتقال الاحتياطي، فان هذا التقدير لا ينبغي ان يتسم بالتجاوز أو عدم المشروعية، بل ينبغي أن يتقيد بشروط تطبيقه بالشكل الذي يحفظ سلامة المجتمع وأمنه دون الاخلال بقرينة البراءة التي تعتبر مبدءا دستوريا واجب الاحترام… وان المسؤولية عن الضرر الناجم عن الاعتقال الاحتياطي الذي تبت خطؤه بصدور حكم نهائي بالبراءة تعتبر أحد صور الأخطاء القضائية الموجبة للتعويض طبقا للفصل 122 من الدستور( حكم عدد 2605 صادر عن إدارية الرباط بتاريخ 11 يوليوز 2017 في ملف القضاء الشامل عدد 182 /7112/2017).

ويتبين مما سبق ان القضاء المغربي تجاوز مفهوم الخطأ كأساس للمسؤولية عن الخطأ القضائي القائم على اثبات الإهمال البين في تطبيق القانون او الاغفال الغير مبرر للوقائع الثابتة في الملف بما يؤثر على مشروعية او تبرير قرار الاعتقال الاحتياطي ، مادام هذا القرار يبنى على التقدير  وليس على اليقين التام، تبعا لظروف  وملابسات كل قضية وهو الاتجاه الذي قررته محكمة النقض- المجلس الأعلى سابقا- في قرارها عدد 4 بتاريخ 10-01-2007 والمنشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 61 لسنة 2009 ص 256

حضرات السيدات والسادة الافاضل

ان اختيار عقد هذا اللقاء وأسبابه وغاياته كانت واضحة ومقصودة انطلاقا من الدعوة الموجهة من اللجنة المنظمة الى المدعويين والتي أشير فيها صراحة إلى أن هذا الجمع المبارك منكب “على فتح نقاش قضائي حول الموضوع، وتوحيد التصورات القانونية والقضائية بشأنه”.

ومن هذا المنطلق أود أن أتشارك معكم بعض التساؤلات حول الموضوع خاصة ما يرتبط بجوانبه القانونية في حالة إقرار تغطيته تشريعيا:

-هل ينبغي معالجة الموضوع تشريعيا في اطار الخطأ القضائي بشكل عام أم الاكتفاء بتغطية اشكال التعويض عن الاعتقال الاحتياطي .

-تحديد التوجه المعتمد في تغطية أضرار الاخطاء القضائية باختيار اعتماد لجان إدارية أم قضائية، محلية او وطنية.

-تحديد طبيعة الاعتقال الاحتياطي الموجب للتعويض على الاعتقال الاحتياطي غير القانوني ام الاعتقال الاحتياطي غير المبرر.

مدى إمكانية ادخال الاعتقال المؤقت الى جانب الاعتقال الاحتياطي في حالة عدم قانونيته.

-تحديد الحالات الموجبة للتعويض عن الاعتقال الاحتياطي.

-تحديد كيفية وضوابط منح التعويض وكيفية تقديره.

وفي الختام أتمنى ان تؤثت أشغال هذا اللقاء بتوصيات ومقترحات هامة تعطي أجوبة شافية ومنيرة لوزارة العدل في رسم سياستها التشريعية الجنائية في هذا الإطار علما انه سبق الاشتغال على الموضوع ووضع مقترحات لضمها في مشروع قانون المسطرة الجنائية، غير ان هاجس   وضع إطار قانوني متكامل للتعويض عن الخطأ القضائي دفع بنا الى التريث إلى أن تتضح الرؤى بمشاركة كافة المتدخلين.

التعليقات مغلقة.