المعرفة و القراءة في ملة العميان

القراءة ليس مفهوما هيولاميا ، يل قوة و بأسا شديدا اعتبره العالم مدخلا للبناء ، و حثت الديانات على ثقفي آثارها ، بل أن الرسول الأكرم أقرها بديلا عن الجزية في حالة تعذر دفعها ، بتعليم عشرة من المسلمين كشرط لإطلاق سراحهم ، أي أن الكل دعا إلى التعليم و التعلم باعتباره مدخلا ليس للقضاء على الجهل فقط ، بل منهاجا لبناء القوة و البأس لخلق نوع من التوازن في القوة الفكرية و العلمية إلى جانب القوة العسكرية .

فهل استطعنا بالفعل أن نعد كل عناصر القوة للغد ؟

الحمد لله نحن امة تقرأ كثيرا ، و من فرط القراءة لا نفرط في أثرها ، بل جعلناها وسيلة لتنظيف زجاج السيارات و نوافذ المنازل ، تجاوزنا جوهر المعرفة الى عرضها ، فهل تملكنا المعرفة لدرجة أننا أصبحنا ننطف بها الأوساخ ؟

الأكيد أن السؤال هو من باب تأكيد العكس ، لأن المطلوب هو تنقية العقل من الشوائب التي تلطخ الفكر العربي و الإسلامي و تحول دون رقيه و تقدمه ، بل و مصالحته أولا و أخيرا مع ذاته و مع كل ما يعطل أسباب قوته .

إن أخطر ما يمكن أن يصعب المسار هو الجهل المزدوج ، أي الجهل بالموضوع ، الذات العالمة ، و بالموضوع ، المعرفة ، التي تعني إخضاع قوى الطبيعة لبناء أسباب الرقي و تحقيق التنمية المجتمعية بمفهومها الشامل ، التي تبتدئ أساسا ببناء الإنسان ، الفرد قبل الجماعة .

إن المشكل الأخطر ليس قائما في المؤسسات و شكلها ، حكومة و لا أحزابا ، بل في قابلية الفرد للتطور الذاتي المستمر ، ضبطا للتوازن العام ، الذي لا يعني سوى تمكين الشباب في المجتمع من أدوات البناء الممكنة ، من خلال تمكينهم من أدوات العلم و المعرفة عبر غرس قيم النقد في كل فرد كمنهاج للعمل لاختراق كل معيقات التطور النفسي قبل المادي .

الأكيد أن التوفر على القوة المادية مطلب ضروري ، لكنها ليست شرطا معطلا للغة الإبداع ، ففعل الإرادة فعل واع بذاته من جهة ، و بحضوره الإيجابي في المجتمع و الطبيعة من جهة أخرى ، لتسخير الجميع لخدمته و لخدمة رقي المجتمع و تطوره لينال حظوته على الصعيد العالمي .

و لعل مشاهد بروز أسماء وطنية في الغرب تثلج صدورنا ، باعتبار تلك الهامة ، على الرغم من احتواء الآخر لمجهودها ، تبقى خارجة من تربة وطنية نبتت جذورها موزعة بين جبال الأطلس و جبال الريف و البحر المتوسط و المحيط الأطلسي و الصحراء الممتدة على تلال و واحات الحرية التي جسدها شبابنا و شاباتنا و شيبنا خلال مرحلة التحرير و التحرر السيادي ، لتنطلق مرحلة الجهاد الأكبر كما قال حينها المرحوم محمد الخامس تغمده الله برحمته الواسعة و التي تبقى أصعب مرحلة و أصعب من مرحلة التحرير ، كما أكد على ذلك جلالة المغفور له .

الثقافة و العلم مفاتيح الرقي و الازدهار بكل الطاقات الممكنة و التي تجسدت في التجربة الصينية التي اعتمدت العنصر البشري قاطرة للتنمية ، و استطاعت بالتالي من خلال تلك القاعدة خلق نهضة غزت العالم و أرعبت القوى الاقتصادية العالمية لتحقق التوازن المطلوب و الضروري لحياة الأمة .

إننا لا نبحث عن شباب غفل كما سماهم أحد مفكرينا ، المرحوم عبد الكريم غلاب ، و لكن عن شباب واع بدوره الإيجابي في عملية البناء ، من خلال توظيف كل الطاقات الممكنة و المتاحة لكسر حاجز الجهل الفردي و المؤسساتي المعيق للتنمية و التنمية المستدامة ، و لعل المنتظم الدولي حين جعل العلم و المعرفة إحدى أهم معطيات التصنيف الدولي في مجال التنمية البشرية ، بطبيعة الحال إلى جانب عوامل أخرى ، فلعلم هذا المنتظم أن هذا الطريق هو قنطرة البناء و رسم معالم الغد و المستقبل المشرق لكل الأمم و الشعوب ، بل أن المنتظم الدولي خصص يوما عالميا للقراءة ، و الحال أن هذا السلوك لا يجب أن يحتفل به بيوم واحد بل بمسار حياة ، كما قال الرسول الأكرم “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد” و أيضا “اطلبوا العلم و لو في الصين” .

الأكيد أن العلم و المعرفة لا حدود لهما ، و أن طلبهما واجب ضروري ، على كل الأفراد كمطلب ، و على الدول كمنحى توجيهي ملزم بضرورة تلقي هاته التربية ، لبناء الإنسان المستقبل ، الواعي بأن الرقي مدخله كل فرد فيه ، ليدافع عن حدوده بقوة السلاح و الوعي و المعرفة و العلم ، لأنه سلاح فعال في حسم المعارك الأساسية ، إلى جانب الجنود الذي يدودون عن تخومه بقوة السلاح الذي يجب هو الآخر أن ينتج بقوة عقل أبناء الوطن .

إن معركة البناء هي من أكبر و أخطر المعارك التي يمكن أن تخوضها أي أمة في مضمار بناء الغد ، أو ما سماه الزعيم الصيني ماو تسيتونغ “سياسة المشي على القدمين” ، لنتمكن بهامة و مثابرة الكل في الدود عن الحمى و تحقيق الرفاه لعموم المواطنين و من مختلف الأعمار .

علينا تجاوز معرفة و ثقافة قراءة الفنجان ، التي تكتسح عقلنا العربي و الإسلامي ، و تعيق انطلاقته ، عقلية التنجيم التي تبني غدا مرصعا بالوهم لن يوصل إلا إلى معارك الهزيمة  و بناء أوطان التبعية و التخلف و الوهم ، و إنسان الجهل و الأمية المعيق للحياة ، فالمطلوب أن نطعم أنفسنا بسلاحي العلم و المعرفة لنقوي جسم الأمة ، و لنطفئ في الجهة المقابلة كل نيران التطعيم المضاد التي تستهدف هويتنا و حدودنا و حاضرنا و مستقبلنا … ، و بهذا نكون بالفعل قولا و عملا “أحسن أمة أخرجت للناس” .

التعليقات مغلقة.