الوجه الآخر للإعلام من منظور بورديو…

بقلم/ محمد المروني.

يعرف السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو بكونه واحدا من أهم الباحثين في تحليل الخطاب المعرفي، فعمل على إبراز دور الخطاب والخطاب الإعلامي أساسا كأدة للسيطرة التي تتقنها المؤسسات وتبرع فيها كرهان اجتماعي ولعبة اجتماعية.

  • كيفية عمل الخطاب الإعلامي عند بورديو

إن للخطاب عند بورديو عدة أشكال سياسي ديني إعلامي ثقافي وحتى فني الخ…، لكن يظل للخطاب هدف واحد، “السيطرة“، سواء بوعي الأفراد أو بدون وعي، والمؤكد أنه في الحالات الأعم تتم السيطرة بدون وعي الأفراد.

يرى بورديو في “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول” أن الصحافيين ليس بالدرجة الأولى هم المؤثرين، فالصحافي إنما هو يخضع بالدرجة الأولى إلى متطلبات القراء أي أنه خاضع بالضرورة لمتطلبات القراء والمعلنين، وهذا ما يعتبره شرطا أساسيا للعمل الصحافي، حيث يقول “هيمنة الآليات الخاصة بمجال صحفي يخضع أكثر فأكثر لشروط وضروريات السوق (القراء والمعلنين)، تلك الشروط التي تمارس تأثيرها بداية من على الصحافيين وبعد ذلك جزئيا ومن خلال هؤلاء على مختلف مجالات الإنتاج الثقافي، المجال القانوني، المجال الأدبي، المجال الفني، المجال العلمي”[1].

بهذا فإن العمل الصحافي يمارس التأثير عندما يتأثر هو نفسه بخطاب ما، أو يمكن القول بتعبير آخر إنه بمثابة الوسيط بين المؤثر والمؤثر به، بذلك تمارس تأثيرها على مختلف المجالات والفعاليات، نفس التأثير، ذلك أن مختلف المجالات الثقافية والفنية والقانوينة مهما بدا من الاختلافات فيما بينها، فإنها حسب بورديو تتلقى نفس طبيعة التأثير من طرف الصحافة.

بيد أنها تركز أساسا على الحقل الثقافي باعتباره أكثر الحقول حيوية داخل المجتمع، فيما تظل الحقول الأخرى مرتبطة به، كونه المحرك الأساسي لباقي المجالات الأخرى.

من جانب آخر فإن ما يرتبط بمجال الإعلام ليس فقط ما يتمثل في التفاعلات وممارسة نفوذ الأفراد، والاطلاع على ما يقوله ويقوم به الآخرون، إنما ما يرتبط بالإعلام أيضا  هو علاقات قوى خفية غير مرئية تماما تجعل من الضروري أن نأخذ في الاعتبار مجمل علاقات القوى الموضوعية التي توجه المجال بحسب قول بورديو[2].

بخصوص عملية التأثير يطرح بورديو مثالا عن القناة الفرنسية الأولى TFI حيث استطاعت من خلال تجربتها الإعلامية الطويلة، وجمعها لعدد من القوى المؤثرة في العالم، هذه القوى المؤثرة هي ما لا تلاحظه الجماهيرمن مشاهدي التلفاز، ولا من جانب الصحفيين الذين يتأثرون ويؤثرون كما أشرنا في بداية هذا الموضوع[3].

من هنا أمكن القول أن الهدف الرئيس من الخطاب الإعلامي هو الهيمنة والاستحواذ على عقول الجماهير، هذا ما يؤدي في الأخير إلى سهولة توجيه أفكار العامة وبناءها بما يتلائم مع مصالح المتحكمين، وبالتالي سهولة التحكم في الجماهير وتوجيهها بما يقتضي المصالح الخاصة.

في عملية التأثير والتأثر من خلال الخطاب الإعلامي يطرح بورديو مفهوما مركزيا هو “المجال” حيث يعرفه بالقول: ” المجال هو عبارة عن فضاء اجتماعي مشيد، مجال تفاعل للقوى- وداخل هذا المجال هناك المهيمنون والخاضعون للهيمنة، هناك علاقات ثابتة ودائمة من عدم المساواة تمارس داخل هذا المجال- المجال هو أيضا ساحة للصراع من أجل تغيير بنية المجال أو الاحتفاظ بالوضع القائم”[4].

إن تعريف بورديو للمجال بهذا الوصف إنما هو تأكيد على ما أشرنا إليه في بداية مقالنا هذا بكون الخطاب الإعلامي إنما هو أداة للتحكم والهيمنة، ومن ثم فهي أداة للحفاظ على الواقع كما هو أو تغييره بما تقتضي المصالح والأهداف.

  • نتائج الخطاب الإعلامي

الخطاب الإعلامي في النهاية تنشأ عنه سلطة رمزية، يقول عنها بورديو في كتابه “الرمز والسلطة”: ” السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية ولايمكن أن تمارس  إلا بتواطئ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها بل ويمارسونها”[5].

في “الرمز والسلطة” يرى بيير أن الذي يمارس السلطة الرمزية أو بالأحرى المتحكم فيها هو الدولة، كما يصف في الوقت نفسه هذه الممارسات بالعنف الرمزي الذي تمارسه الدولة لبسط هيمنتها وسيطرتها على الأفراد من خلال تمريرها لمختلف أشكال العنف الرمزي بمختلف آلياتها وتقنياتها.

إذن فالدولة بصفتها المتحكم في الخطاب الإعلامي فإنها تمارس سلطتها من خلال أدوات معرفية وذلك لبناء نظام معرفي جديد يقوم على إيديولوجياتها الخاصة، وتجدر الإشارة إلى أن وظيفة السلطة الرمزية لا تقتصر فقط على التواصل وحسب، فإن لها أيضا وظيفة سياسية تسهم أساسا في إعادة بناء النظام الاجتماعي.[6]

وما يميز الخطاب الإعلامي أو حتى ما ينشأ عنه من سلطة رمزية هو أنه خاضع للتغيير والتحويل في أي وقت ممكن، لذا فهو يعتبره عنفا رمزيا يمارس على الأفراد بشكل لا مرئي، بل وهو أخطر أنواع العنف، فهو عنف لطيف وعذب غير محسوس وهو غير مرئي حتى لضحاياه أنفسهم.

“إن القوة الرمزية هي شكل للسلطة تمارس على الأجساد مباشرة خارج كل إكراه جسدي كما يفعل السحر”[7]، إنها مجموعة أو منظومة من “فعالية واقعية تنبع من اعتراف المغلوب بشرعية هيمنة الغالب”[8]، فالطبع الرمزي هو الذي يوطد علاقات القوة، إن العنف الرمزي يتحدد بين من يمارس السلطة أو يحاول ممارستها وبمن يخضع لها، وما يعطي لهذا العنف قوته وفاعليته على حفظ النظام أو تجاوزه هو إيمانه بمشروعية الكلمات وما ينطق بها.

ختاما إن السلطة الرمزية لا تتم ممارستها إلا عند القبول الإرادي لها والمتعمد والحر، ولا تمارس آثار الهيمنة الرمزية على اختلافها إلا من خلال ترسيمات الإدراك الحسي والتقسيم والفعل، وتزداد قوة كلما تمت ممارستها بشكل يومي، ودون علم المسيطر عليهم، ودون إرادتهم، لكن مع قبولهم الضمني لها.

المصادر:

[1] بيير بورديو، التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول، ترجمة وتقديم درويش الحلوجي، الناشر دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، الطبعة الأولى 2004، ص125

[2]  راجع المرجع نفسه، ص 84-85

[3]  راجع المرجع نفسه، ص 85

[4]  المرجع نفسه 86

[5]   بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبد السلام بنعبدالعالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الثالثة 2007، ص 48

[6] راجع المصدر نفسه، ص 34

[7]  بيير بورديو، الهيمنة الذكورية، ترجمة سلمان قعفراني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت لبنان، ص 66

[8]  بيير بورديو، العنف الرمزي: بحث في أصول علم الاجتماع، ترجمة نظير جاهل، المركز الثقافي العربي، بيروت لبنان ، الطبعة الأولى 1994، ص 6

التعليقات مغلقة.