الفقر و مسؤولية القتل الرسمي لأحلام راكبي “قوارب الموت”

بقلم : محمد حميمداني

 نسب موت متحركة يتم تسجيلها نتيجة محاولة العديد من الناس الوصول إلى عالم الأحلام و الهروب من الفقر عبر قوارب الموت القاتلة و العابرة للآلام ، فقد لقي ما لا يقل عن 1.146 شخصا حتفهم أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا عن طريق البحر خلال الأشهر الستة الأولى من سنة 2021 وحدها ، و حصيلة توازي ضعف النسبة المسجلة خلال نفس الفترة من السنة الفارطة وفق إفادة المنظمة الدولية للهجرة .

رحلة إلى المجهول

 و هكذا فقد سجلت سنة 2021 ، موت أطفال و نساء و رجال وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط،  إذ تم تسجيل 896 حالة وفاة عبر هاته البوابة ، مما يجعل هاته النقطة من أخطر طرق الهجرة البحرية في جميع أنحاء العالم ، و قد توزعت النسب المقدمة من طرف المنظمة ما بين 741 شخصا قضوا أثناء محاولتهم عبور وسط البحر الأبيض المتوسط ، فيما لقي 149 شخصا حياتهم أثناء محاولة العبور من بوابة غرب البحر المتوسط ، فيما حصد شرق البحر ستة أرواح .

 و رأت المنظمة أن نسبة محاولة العبور إلى أوربا من بوابة البحر الأبيض المتوسط قد سجلت ارتفاعا كبيرا إذ بلغت 58 % خلال الفترة الممتدة من يناير إلى غاية يونيو من سنة 2021 مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2020 .

 و أمام هول الضحايا و ارتفاع النسب دعا ، “أنطونيو فيتورينو” ، المدير العام للمنظمة الدولية للهجرة ، الدول إلى “اتخاذ خطوات عاجلة و استباقية للحد من الخسائر في الأرواح على طرق الهجرة البحرية إلى أوروبا و الوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الدولي” .

 يذكر إلى أن محاولة الهجرة إلى “جزر الكاناري” لوحدها ، عن طريق غرب أفريقيا ، قد حصدت حوالي 250 شخصا خلال نفس الفترة ، و هي أرقام قد تكون أكثر مع تسجيل حالات إبلاغ عن قوارب محطمة في المحيط الأطلسي لم يتم رصدها من طرف الدوائر الرسمية .

 فيما تؤكد أعداد عمليات الاعتراض أو الإنقاذ التي تم القيام بها في عرض البحر لأكثر من 31.500 شخصا خلال النصف الأول من سنة 2021 ، ارتفاع أعداد راكبي “قوارب الموت” ، و هي نسبة تبقى الأعلى إذا ما قورنت مع نفس الفترة من السنة الفارطة حيث سجل 23.117 فقط .

 أرقام أقلقت المنظمة الدولية للهجرة ، و كل المنظمات المهتمة بالمجال ، خاصة و أن محاولي الهجرة إن كتبت لهم النجاة يتعرضون إما للاحتجاز التعسفي أو للابتزاز و الاختفاء و التعذيب ، كما هو مسجل بليبيا .

 المدير العام للمنظمة الدولية للهجرة دق ناقوس الخطر داعيا الحكومات و الجهات الرسمية إلى بدل المزيد عبر تقوية جهود البحث و الإنقاذ و إنشاء آليات يمكن التنبؤ بها للإنزال و ضمان الوصول إلى مسارات الهجرة الآمنة و القانونية ، لحسر الأعداد الهائلة من الضحايا الذين يسقطون عبر بوابات الموت السرية المتواجدة عبر عرض البحر الأبيض المتوسط و المحيط الأطلسي .

 و للإشارة فقد كانت وكالتان تابعتان للأمم المتحدة قد دعتا إلى تكثيف عمليات البحث و الإنقاذ في وسط البحر المتوسط ، في أعقاب حادثة غرق مأساوية لقارب يقل مهاجرين و لاجئين ، أودى بحياة 45 شخصا ، ضمنهم خمسة أطفال ، من أصل 80 شخصا كانوا على مثنه ، بعد انفجار محرّكه قبالة ساحل مدينة “زوارة” بغرب ليبيا ، فيما تمكن الصيادون المحليون من إنقاذ حوالي 37 شخصا منهم ، ليتم احتجازهم بعد ذلك .

 و كانت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين و المنظمة الدولية للهجرة قد دعتا ، في وقت سابق ، إلى مراجعة نهج البلدان اتجاه الوضع القائم في مجال الهجرة ، حيث قالتا “نخشى أنه بدون زيادة عاجلة في قدرات البحث و الإنقاذ ، قد يؤدي ذلك إلى حدوث كارثة أخرى مماثلة للحوادث التي شهدت خسائر كبيرة في الأرواح وسط البحر المتوسط قبل إطلاق عملية (بحرنا)” .و تجدر الإشارة إلى أن عملية “بحرنا” (Mare Nostrum) و هي العملية التي قامت بها السلطات الإيطالية ابتداء من شهر أكتوبر (تشرين الأول) من سنة 2013 قد مكنت من إنقاذ نحو 150 ألف لاجئ و مهاجر عبر سواحل البحر الأبيض المتوسط ، لكنها توقفت بعد سنة من ذلك التاريخ .

 المنظمتان الأمميتان أعربتا عن القلق من تأخر جهود الإنقاذ و الإنزال ، داعية جميع الدول إلى السرعة في الاستجابة لطلبات الإنقاذ و الاستغاثة التي تطلق من قبل راكبي قوارب الموت ، و توفير ميناء آمن للناجين من عباب البحر ، حيث قالتا “عندما تكون السفن التجارية هي أقرب قارب قادر على تنفيذ عملية الإنقاذ ، يجب تزويدها على الفور بميناء آمن لإنزال الركاب الذين تم إنقاذهم” .

 و طالبت المنظمتان إلى حماية المهاجرين و طالبي اللجوء من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يتعرضون لها ، و تجنيبهم الاحتجاز التعسفي و تحييدهم من خطر النزاع المستمر ، داعيتان إلى بدل أقصى الجهود لمكافحة التهريب و الاتجار بالبشر ، إذ قالتا “ينبغي أن يشمل ذلك مكافحة و وضع حد لعصابات التهريب التي تقودها الجماعات الإجرامية لمنع المزيد من الاستغلال و الانتهاكات” .

 و تبقى عملية اجتياز الحدود البحرية بطريقة غير نظامية “بحثا عن جزر الأحلام و الجنة الموعودة” ، عبر “قوارب الموت”  فرارا من الواقع الصعب الذي يعيشون الملايين من الناس في بلدانهم الأصلية إحدى أسوأ الحالات المسجلة في عالمنا المعاصر ، و التي تعكس انحدار منظومات القيم الإنسانية المعاصرة ، من خلال مشاهد مؤلمة لمفقودين أو موتى تبتلعهم أمواج البحر بشكل دائم ، و هم الذين ركبوه هروبا من واقع الإحباط الرسمي و المؤسساتي و سياسة إشعال الحروب و إثارة الفتن و النعرات القبلية و الطائفية ، و التي حولت العالم “المتحضر” إلى “حلبة مصارعة” ضحاياها أطفال و نساء من مختلف الأعمار و الأجناس ، و التي غدتها ظاهرة كورونا بتداعياتها الاقتصادية و الاجتماعية التي وسعت حالة اليأس و دفعت المزيد من الناس إلى المغامرة و ركوب الموت المتحرك في مسعى لتحقيق حلم ومستقبل مجهول .

 مغامرة تعني ركوبا لقوارب موت محقق دافعه انتشار قيم البؤس الرسمي و غياب أدنى مقومات العيش الكريم ، و التي تزيد من حدتها تفشي سلطة القمع و المنع من التعبير حتى عن الرفض لهذا الواقع ، و هو ما أدى إلى شيوع قيم الإحباط و اليأس لدى شريحة عريضة من المواطنين الذين طالتهم الأزمة ، و ارتماء الحكومات في أحضان توجيهات المؤسسات المالية العالمية التي لا توزع إلا الفقر و الجهل و الاستلاب ، و التي زادتها كورونا استفحالا مع حضور الهاجس الأمني لدى السلطات و استغلال شبكات الهجرة السرية و الاتجار بالبشر الوضع لمزيد من توسيع دائرة نشاطها ، خاصة و أن الوضع القائم يدفع صغار البحارة لبيع قواربهم لتلك الشبكات الإجرامية المنظمة ، و هو ما يعكس هذا الارتفاع المسجل في النسب ، إضافة إلى أن الظاهرة لقيت شيوعا لدى مختلف شرائح المجتمع و شكلت هاجسا يوميا لكل فئات المجتمع الهشة و العاطلين عن العمل ، خاصة الشباب منهم ،  و توسعت لتشمل النساء و القاصرين و الأطفال ، بل أن الظاهرة انتقلت لتصل الطبقة المتوسطة نفسها التي وجدت نفسها في أثون الأزمة ، بل أننا أصبحنا أمام ظاهرة جديدة تتمثل في الهجرة الجماعية العائلية .

 إن الوضع المأساوي الذي تشهده بحار العالم ، و خاصة في المتوسط ، لترسم صورة سقوط قيم الإنسان ، لفائدة ارتفاع قيم الدولار و اليورو و الين و هلم جرا ، مصالح نفعية أفقرت الشعوب و جعلتها في لغة الخطاب الرسمي مجرد كابسولات لأداء بذخ الحكومات الرسمي ، و جنون الفساد و القمع و المنع الذي خلف إحباطا شعبيا لا مفر لتجاوزه إلا بركوب بحر “الموت المتحرك” للوصول لعالم الأحلام القاتل لهاته الأحلام أصلا ، و لكن بمؤامرة رسمية دولية لسلخ و ذبح كل ما هو جميل مما تبقى من إنسانية ممسوخة . 

 

التعليقات مغلقة.