د. محمّد محمّد خطابي يكتب عن الكاتب المكسيكي أنطونيو ألاطوري: المسلمون كانوا أساتذة القارة العجوز فى القرون الوسطى

د. محمّد محمّد خطابي *

أيها الصديق الأثير الأمازيغيّ الرّيفيّ القحّ ، أحاديثك ، و ذكرياتك ، و ومضاتك الإسترجاعية عن ذلك الزّمن الماضي الجميل تنقلنا دائماً فى رمشةِ عين ، و فى لمحٍ من البصر إلى ربوع الأندلس الأندلس ، آذاب الفيحاء حيث التقينا بها منذ سنواتٍ بعيدةٍ خلت ذات صيفٍ قائظٍ ، و جُبنا حواضرَ مجريط ، و قرطبة ، و غرناطة ، و إشبيلية ، و مالقة ، و جيّان ، و سرقسطة ، و ألمريّة ، و مُرسية ، و بلد الوليد ، و وادي الحجارة .. وتمنّيتَ حينذاك أن لو كنتَ ممّن عاشوا فى الأندلس في تلك الحقبة المجيدة من التاريخ الاسلامي تحت الظلال الوارفة للحضارة العربية – الأمازيغية التي أفل اليوم نجمُها ، و خبا أوارُها ، و تداعى بناؤها ، خيّل إليك لحظتئذٍ أنك ربّما كنتَ تنحدر من سلالة هؤلاء المُوريسكييّن النازحين الذين هُجِّرُوا قهراً ، و قسراً ، و عنوةً من أراضيهم من إسبانيا حيث عاش أجدادُهم ما ينيف عن ثمانية قرون ، و بعد قرارات طائشة و مُجحفة من طرف الملوك الكاثوليك الاسبان أُبْعِدوا من ديارهم و وطنهم و زُجّ بهم فى مدن و حواضر و قرىَ المغرب و الجزائر و تونس ، و كذا فى قبائل غمارة و في مناطق الرّيف التي ما زال السكّان يطلقون عنها الى اليوم اسم جماعة “الأندلسيّين” الذين استقرواّ بين ظهرانيْ مدينتيْ المزمّة و بادس التاريخيتين المندثرتيْن اليوم اللتيْن سادتا ، ثمّ بادتا على سواحل صفيحة و السّواني ، كما استقرّ بعضُ هؤلاء المُهجّرين فى مناطق أنجرة و أرباض مدن طنجة و تطوان و الشاون ، فضلاً عن حواضر الرباط و سلا و فاس و سواها من مدن و مناطق المشرق …!

ربط التاريخ باللغة

صاح .. كلما دارت أحاديثنا عن أمجاد الأندلس و رقيّها ،و علومها ، و آدابها ، و مخطوطاتها ، و  أشعارها ، و مُخترعاتها ، و عُمرانها ، و بساتينها ، و معالمها ، و مآثرها العمرانية تعود بي الذاكرة الى أحد الأصدقاء المكسيكيين ، و هو الباحث الكبير”أنطونيو ألاطورّي” الذي تعرّفتُ عليه في بلده المكسيك إبّان وجودي و عملي بها أوائل التسعينيات من القرن المنصرم ، إنني ما زلتُ أذكر أنّ هذا الباحث راودته نفس الأمنية التي راودتك ، و تمنّى هو الآخر لو كان ممّن عاشوا في الأندلس خلال الوجود الإسلامي بها ، و تمخّضت هذه الرّغبة لديه في وضع كتابٍ تاريخيّ طريف يحمل عنوان : ” ألف سنة و سنة من تاريخ اللغة الإسبانية” الذي يسلّط فيه الأضواء الكاشفة على بعض مظاهر تأثير الثقافة الإسلامية و اللغة العربية في الثقافة و اللغة الاسبانيتيْن في شبه الجزيرة الإيبيرية ، و فى مختلف البلدان الناطقة بلغة “سيرفانتيس” فيما بعد في أمريكا اللاتينية .

يقول الباحث “ألاطورّي” في هذا الكتاب بالحرف الواحد : ” إنّه عندما عمد إلى كتابة الفصل المتعلّق بتأثير الحضارة الإسلامية في اللغة و الثقافة الإسبانيتين ، و صار ينقّب في الوثائق ، و المراجع ، و المظانّ تيقّن له أنّ شيئاً مّا غير عادي كان يحدث له ، حيث وجد نفسَه يربط التاريخ باللغة” ، و يضيف قائلاً : ” لقد بهرني العهد المتعلق بوجود المسلمين من عرب و أمازيغ في إسبانيا ، بل إننّي شعرتُ بانجذاب كبير نحو هذا العهد ، و إنّ أهمّ ما استرعى إنتباهي ، و سيطر علي مجامعي في هذه الحقبة الأندلسية الزّاهرة هو التسامح . فالسكّان المسلمون على إختلاف أعراقهم ، و أجناسهم ، و أنسابهم ، و جذورهم ، و إثنياتهم ، بعد أن إستقرّوا في شبه الجزيرة الإيبيرية لم يكونوا ذوو عصبيّة ، بل إنهّم جعلوا من مبدأ التسامح ديدنهم ، فساد هذا المبدأ في إسبانيا إبّان وجودهم بها . و قد عرفت المدن الأندلسية ازدهاراً كبيراً ، كما زُرعتْ الأراضي الاسبانية بشكلٍ لم يسبق له مثيل قبل وصول العرب و الأمازيغ إليها” .

في رَغَدٍ من العيْش
و يضيف الباحث المكسيكي ” أنطونيو ألاطورّي” قائلاً : ” كانت هناك ثورات هائلة فى مختلف مرافق ، و مناحي الحياة ، و كان الناس يعيشون في رَغَدٍ و رفاهية من العيش ، لدرجة أنّ كثيراً من سكان إسبانيا القدامىَ أصبحوا عرباً أو  شبيهين بهم بطريقة عفوية ، فطريّة ، طبيعية ، تلقائية .

 

لقد وجدوا أسلوب العيش عندهم أسلوباً مريحاً و جميلاً ، و كان دينهم أقلّ تعقيداً ، و  اتّسمت مظاهر العيش بالرقيّ ، و  الإزدهار في مختلف مناحي الحياة . و هكذا تعايشت المساجد جنباً إلى جنب مع الكنائس ، و مع معابد اليهود ( البِيَع) في زمن و حيّز واحد مُتناغم . و قد شكّل ذلك معايشة نموذجية مُثلىَ من جرّاء لقاء عالمين . و حدَثٌ من هذا القبيل لم تعرفه البشرية من قبل”. ويؤكّد الباحث ألاتورّي : ” إنّ معاداة السّامية في أوربّا لم تظهر في ظلّ المسلمين الأندلسييّن “.

أساتذة القارة العجُوز

يقول هذا الباحث المكسيكي عن الثمانية قرون التي زيّنت يوماً مّا جيدَ الزّمان في الأندلس الذي أصبحنا نسمه اليوم ب ” الفردوس المفقود” :” إنّ التاريخ قد تغيّر فيما بعد ، إلاّ أنّ تلك القرون الثمانية من الإشعاع و الإزدهار التي شهدتها و عاشتها شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا و البرتغال) فى ذلك الأوان ما زالت فريدة و إستثنائية في عِقد التاريخ . و إنّ إسبانيا في ذلك العصر عرفت كيف تقدّر ، و تثمّن ذلك العطاء الثرّ الذي أبهر العالم . و هكذا كان المسلمون الذين عاشوا في إسبانيا بحقّ مُعلّمين و أساتذة من الطراز الرّفيع للقارة العجوز في ذلك الوقت “ .

 

و  يشير الباحث المكسيكي في ذات السّياق في كتابه الآنف الذكر : ” هذه الرّوح السّمحاء لم يفهمها الغرب ، فأنا لو عشتُ في تلك الأزمان لكنتُ ، و لا شكّ ، ممّن إعتنقوا الإسلام” .

 

هذا الكتاب القيّم يقرأه المرء في سردٍ متواترٍ سلس كأنّه يقرأ قصّة مغامرات لغوية و تاريخية يُتابع فيه المؤلّف هذه الشخصية الأساسية و هي “اللغة القشتالية ” منذ أصولها البعيدة ، و ينابيعها الأولى و مولدها في مهدها الأوّل في ينبوعها الأصيل و مكان مولدها الأثيل في شبه الجزيرة الإيبيرية ، و يقتفي جذورها بين الطواحين العالية العملاقة فى أرض قشتالة الفسيحة التي طالما إرتاع ، و إلتاع ، و فزع لها ، و رُوِّع بها ، و صال و جال في ربوعها ، و قراها ، و أرباضها ، و مداشيرها ، البطل الأسطوري ، و الخيالي الحالم ، و الفارس التائه Don Quijote De La Mancha ” دون كيخوته دي لا مانشا ” في القصة الشهيرة لشيخ الرّوائييّن الإسبان ”مغيل دي سيرفانتيس” الخالدة ، علماً أنّ هذه الكلمة الأخيرة (لا مانشا) تنحدر من الكلمة العربية المَنْشَأ ) .

الأندلس جِسر حضاريّ

و يشير الكاتب ألاطورّي في ختام كتابه : ”إنّ الذي حدث في شبه الجزيرة الايبيرية منذ 711 م . كان تجليّاً ثقافياً ليس له نظير فى التاريخ ، إنه شيء يشبه الإنبهار الذي يبعث على الإعجاب الذي يغشى المرء بعد كل معجزة ، فقد وصل العرب و الأمازيغ إلى إسبانيا ، و هم يحملون معهم مختلف أنواع العلوم و الآداب و المعارف العلمية التي أنارت دياجي الظلام فى أوربا التي كانت لمّا تزلْ ترزح تحت وطأة الجهل ، و تتخبّط فى دهاليز التأخّر و التزمّت و الانغلاق و جرّاء هذا الاختلاط و التمازج، و التجانس ،و التعايش ، و التنوّع و التعدّد الذى عرفته شبه الجزيرة الايبيرية جعلوا من الأندلس جسراً حضاريّاً بين الشرق و الغرب حيث تفتّقت ثقافات الشرق و الغرب على حدٍّ سواء ، و بشكل خاص في بوتقة ثقافة حوض البحر المتوسط”.

 

و يضيف الباحث المكسيكي : ” إنّه قد ثبت علمياً أن الجينات العربية و الأمازيغية تجري في عروق مختلف الدّماء و السّلالات ، و الأجناس و الأعراق التي عاشت و استوطنت شبه الجزيرة الإيبيرية التي لا يزال أحفادها يعيشون فيها الى اليوم .

 

قال الكاتب الاسباني ”فيسينتي بلاسكو إبانييث” (1867- 1928) : ”جعل المسلمون من إسبانيا في ذلك العهد كالولايات المتّحدة الأمريكية ، يعيش فيها المسلم و المسيحي و اليهودي بحرية تامة و من غير تعصّب ، و عندما كانت دول أوربا تتطاحن ،و تتقاتل في حروب دينية و إقليمية فيما بينها ، كان المسلمون و الاسبان و اليهود يعيشون فى سلام كتلةً واحدة ، و أمّة واحدة ،فزاد سكان البلاد ، و  ارتقى فيها الفنّ ، و  إزدهرت العلوم ، و أسّست الجامعات . سَكَنَ ملوكُها القصورَ ، و عاش شعبُها في الرّخاء ، بينما كان ملوك بلدان الشّمال يبيتون في قلاعٍ صخريّةٍ سوداء ، و كانت شعوبها تعيش في أحقر المنازل” و أرذلها .

 

كاتب و مترجم و قاصّ من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية -الأمريكية للآداب و العلوم بوغوطا كولومبيا .
** تحريراً فى (حيّ المزمّة ) أجدير الحصين / الحسيمة

التعليقات مغلقة.