الثابت و المتحول في علاقة برلين بالرباط

بقلم محمد حميمداني

تمر العلاقات الألمانية المغربية بامتحان صعب نتيجة تعارض المصالح و اختيار الألمان معاكسة القضايا الوطنية، والحضور القوي للمغرب بإفريقيا، ورفضها للتقارب المغربي الأمريكي، و هو ما جعلها تدخل على خط معاداة المغرب، سواء في القضية الوطنية الأولى، أو عبر إقصاء المغرب من الحضور الإفريقي من بوابة الملف الليبي بشكل متعمد، على الرغم من تبني المغرب الملف من بدايته و مساهمته الكبيرة في حلحلة الوضع، المفاجأة التي لم تنتظرها ألمانيا هي الرد الصارم من قبل الرباط، رد فرض على الألمان إعادة النظر في مسار العلاقة والدفع بعلاقات متوازنة مع الرباط.

 

و هكذا فقد أجبرت “برلين” على تغيير مقارباتها لمختلف القضايا في علاقاتها مع الرباط، متراجعة بذلك عن النظرة التقليدية التي كانت تنهجها اتجاه المغرب في إطار علاقة القوة و الفقر.

 

أن تغير برلين مواقفها فذاك ليس بالأمر الهين، بل أنها أجبرت على هذا التغيير بعد الرد القاسي من الرباط، والذي لم تتوقعه ألمانيا.

 

فالرباط و بناء على التوجهات الرسمية التي أطلقها عاهل البلاد، ورسم عبرها حدود العلاقة الدبلوماسية والاقتصادية و التجارية مع جميع الدول على قاعدة مراعاة المصالح المغربية و الشعور الوطني للمغاربة، وهو ما عكس ذلك التحول الجدري في السياسة الخارجية للمغرب، من سياسة السكون و المساكنة، إلى سياسة الحزم اتجاه كل من يتطاول على قضية من قضاياه الاستراتيجية، وهو ما جسده عمليا اتجاه كل من ألمانيا و إسبانيا.

فالشراكة تقتضي الاحترام المتبادل بين الشركاء، وبالتالي الخروج من موقف التردد في العلاقة مع الشريك، والوضوح في المواقف السياسية بدل الغموض الذي يلف علاقات الشركاء، و هو ما عكسته الرباط التي اعتبرت إعادة النظر في المواقف الأخيرة للمملكة رهين بتغيير تلك الدول لمواقفها المعلن عنها في مختلف القضايا المصيرية للوطن والابتعاد عن تهديد مصالح المغرب، أي بناء علاقات جديدة متوازنة على قاعدة رابح – رابح و ليس العكس.

 

فأسلوب الدبلوماسية الجامدة التي انتهجتها المانيا في عهد ميركل، وفق وصف الصحافة الألمانية، وطريقة التعاطي مع المغرب، التي لم تراع، أو تجاهلت، التطورات الكبيرة التي حصلت في شمال إفريقيا، و على الخصوص في إفريقيا، و التي جعلت المغرب لاعبا أساسيا في جميع المجالات، الشيء الذي لم تدونه الدبلوماسيية الألمانية في مفكرتها، و هو ما جعلها تخطئ في الحساب، وبالتالي تسقط في الامتحان، و هو ما اقتضى منها إعادة قراءة دفاترها الدبلوماسية لصالح إعادة النظر في مفهومها الكلاسيكي للعلاقات بين الدول، والبحث عن أشكال التقارب الواقعي مع الرباط، و الأخد بعين الاعتبار التطورات الإقليمية التي حصلت، و التي تصب في مصلحة الرباط، فتلك النظرة الاستعلائية في العلاقات بين الدول هي التي دفعت المغرب إلى تصعيد الموقف، والإعلان عن دخول العلاقات المغربية الألمانية منطقة التوتر غير المعهود في تاريخ العلاقة التاريخية بين البلدين.

 

بل أنه وحتى في ملف الصحراء المغربية، فالموقف الألماني بقي ثابتا و محافظا على شكله التقليدي، و لم يراع مجموعة من الاعتبارات الأساسية، أولها المقترح الواقعي الذي قدمه المغرب، و الذي لا يتعارض مع المواثيق الدولية، و الذي تعرف إسبانيا أكثر من غيرها قيمته، و هي الرافضة لاستقلال منطقة “كاطالونيا” و قس على ذلك الكثير، و المعطى الثاني هو تبني الأمم المتحدة لهذا الموقف المغربي، و المعطى الثالث هو الاعتراف الكبير بمغربية الصحراء و حل الحكم الذاتي و كان آخرها الموقف الأمريكي الواضح، و الذي لا لبس فيه، و هو تقارب أغضب برلين، و جعلها تخطئ في الحساب مرة ثانية. 

 

بعد مرور سنة كاملة من التوثر و الجمود في العلاقات بين البلدين و صلابة الموقف المغربي، ومع فشل برلين في إقناع الشعب و المؤسسات الألمانية بصوابية مواقفها المعادية للرباط، وادعاءها بلغة لا يمكن فهمها، حينما صرحت بأنها “لم تفهم على وجه الدقة الأسباب التي دفعت الرباط لهذا التصعيد في الموقف”، في وقت لم تقدم برلين أي مبرر مقنع لاستبعاد المغرب من مؤتمر برلين، و هو ما أحرج الدبلوماسية الألمانية، و وضعها في الزاوية بلغة الملاكمة، علما أن المغرب لعب دورا كبيرا في جمع الفرقاء الليبيين على  طاولة المفاوضات. 

برلين وفي سياق تغيير مواقفها الجامدة التي تبنتها زمن “ميركل” أرسلت رسائل إيجابية مع المستشار الجديد “”أولاف شولتس”، مما مكن من إحداث خلخلة في جليد علاقات البلدين ابتداء من  الخامس من يناير/كانون الثاني الجاري، حيث أرسلت برلين إشارات التحول عبر إشادتها بمقترح المغربي الحكم الذاتي، واعتباره جهدا جيدا يصلح أساسا لتسوية نزاع الصحراء، إضافة إلى الإشادة بقرار مجلس الأمن رقم “2602” حول الصحراء.

 

الأكيد أن هذا التحول لم يأت من فراغ، بل من قرار مركزي و من أعلى المستويات باستعمال كافة أشكال الضغط الاقتصادي و التجاري، وحرمان برلين من فرص استثمارية هامة وضخمة كانت موضوع اتفاق بين البلدين، ضمنها مشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر – الاستفادة من المعادن التي يوفرها جبل التروبيك لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية، و تحول المغرب جهة الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، وفرنسا،  في توجه مقصود لخنق برلين، وإجبارها بالتالي على تعديل مواقفها بقوة ثبات الموقف المغربي و قوة الضغط الاقتصادي و التجاري، و زادت من تعميق هذا الضغط من خلال دول أوروبا الشرقية، من خلال المشاركة في قمة بودابست، في ملتقى منظمة “فيسغراد”، و تيسير ولوج هاته الدول إلى السوق المغربية من خلال الفرص الاقتصادية الممنوحة في الأقاليم الجنوبية ومنها إلى البوابة الإفريقية التي يشكل المغرب مدخلها.

 

ألمانيا فهمت الرسائل و توجهت بسرعة لطوي ملف الخلاف لتعقبها هولاندا، فيما إسبانيا دخلت بوابة الحل متأخرة و عبر العاهل الإسباني بتفويض من الحكومة.

 

موقف قابلته الرباط بالإشادة و الدعوة إلى إلى تحويل النظريات إلى تطبيق، وهو ما سعى المستشار الجديد إلى العمل به من خلال المواقف التي أطلقها و المتعلقة بقضية الصحراء، بتبني الموقف المغربي للحل، ودعوته جلالة الملك محمد السادس للقيام بزيارة لألمانيا لإعطاء دفعة جديدة قوية لهاته العلاقات.

تعليق 1
  1. […] post الثابت و المتحول في علاقة برلين بالرباط appeared first on جريدة […]

التعليقات مغلقة.