تازة: بعض زمن فنون المدينة التشكيلية قبل ربع قرن

عبد السلام انويكًة

ضمن أثاث مشهد ثقافة فسيفسائي ودينامية ابداع ومبدعين بمدينة تازة، لطالما كانت الصورة، ومن ثمة جمالية تعبير وفن التشكيل، منذ استقلال البلاد، وخاصة خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، لِما طبع هذه الفترة التي اعتبرت ذهبية من فعل وأثر امتد حتى نهاية عقد الألفية الجديدة الأول.

وغير خاف عن العارفين والفاعلين ما جادت به أمكنة المدينة وأزمنتها من أسماء وتجارب وإقبال وتأمل ونوع وتنوع تشكيلي الى عهد قريب، كذا ما كان عليه فعل مجتمع تازة المدني في هذا الشأن من تدفق عطاء فني وايقاع ملتقيات، فضلا عما كان لحركة المدينة التشكيلية أيضا من وقع في تكامل مشهد إبداعي، لِما كان يميز مواعيدها من تجارب وحس واغناء واضافة لمشهد وتحف تعبير وجديد وتجديد وتنافس شريف وتلاقح وهيبة ابداع ومبدعين.

 

هكذا بفنون تشكيلية مؤثثة وأعلام أثثت شأن وتجارب وأسماء كانت تازة الى عهد قريب، وهذا ما كانت عليه المدينة من حضور وإبداع طافح ضمن وهج ثقافة وإيقاع وهيبة وسلطة مبدع أيضا، وكذا من طاقات إبداعية وحضن ونبل وغيرة وصي جعلت تازة بما كانت عليه من صدى قوي وأثر هنا وهناك، ومن ثمة ما أثث المدينة من روابط وتشارك وتدافع وتجليات إبداع كان بما كان من تلاقح وتنوير.

ضمن هذا وذاك من الذاكرة المحلية، وبعيدا عما هو ثقافي عام، لا شك أن الحديث عنه ذو شجون، ارتأينا فقط بالمختصر المفيد إلقاء إطلالة عن حال وأحوال تشكيل تازة وتشكيلييها، من خلال ما يبدو من ملمح، إلى حين ما ينبغي من نظر فاعلين مختصين ومهتمين ومتتبعين، من شأن طروحاتهم وقراءاتهم أن تكون بإشارات أهم وأوسع صوب ما كانت عليه المدينة من مساحة تميز ماض، ومظهر هنا وهناك قبل ما هو عليه كائن تعبير.

يذكر أن تازة بأعلامها التشكيلية وتجاربها كانت بإسهامات وقيم فنية وتيمات وانسان منذ استقلال البلاد، إن لم نقل قبل ذاك بفترة، هكذا وعلى امتداد أزيد من نصف قرن كانت المدينة بتدفقات جمالية، فضلاً عما طبعها من توقيع وقضايا وتقاطعات تعبير لاحقة، ليس فقط على مستوى داخل البلاد وايقاعهالفني، إنما أيضا في علاقة بما هو عربي ودولي.

تلك هي روح تشكيل تازة التي كانت بذورها في فعل ثقافي ومشهد تثقيفي، عبر تجارب وأسماء كانت في انخراط قوي معبر في مساحة المحلي قبل ما يبدو من بياض ونتوء مثير للسؤال.

ويسجل أنه بقدر ما كانت المدينة وعاء فعل وتيمات فنية تشكيلية فسيفسائية، بقدر ما تقاسمتها تجارب بدأت الى حين ما ينبغي من جمع وبحث وتوثيق، مع العصامي التسعيني “أحمد قريفلة” حفظه الله، شيخ واقعية تازة، وواقعية المغرب وقيدومها، الذي اتحفت تجربته بما أتحفت، وأغنت وأثارت لعقود من الزمن داخل البلاد خارجها.

أحمد قريفلة، الاسم التازي الذي بات برمزية انسانية كونية، يسجل لجمعية “نادي المسرح والسينما” بتازة ما كان لها من حضن لشخصه وتجربته، وتثمين لورشه وذاكرته ومساره، ونبش وجمع وتوليف لعرشه، عبر ما كان للباحث الأديب الدكتور “مداني عدادي” من إنصات لرمزه وعصامية تعبيره الجمالي وعمره الفني، ومن التفات لأسرار كيانه الفني هنا وهناك بين أمكنة وأزمنة وطبيعة البدايات، من خلال عمل بيوغرافي أدبي رصين غير مسبوق موسوم “طائر الوروار”، في بادرة رمزية اعتبارية رفيعة الدلالة كانت بما كانت عليه من قيمة مضافة هامة لخزانة تازة الفنية والمغربية والعربية أيضا.

إلى جانب هذا الاسم الجمالي التعبيري الجبل لِما كان عليه من مسار وزمن وسلطة فنية رمزية، نجد مساحة تجارب محلية وقمم جمالية كانت بما كانت عليه من بصمة وصدى واشعاع وسمو توقيع، ومن ثمة مجد تشكيل تازي، وفترة ذهبية مشهود بها، وكذا حضور معبر داخل البلاد وخارجها.

ولعل منها تجارب وإسهامات ونبوغ كل من الفنان “محمد خلوف” و”محمد قنيبو” و”عبد المجيد التوزاني” رحمه الله، و”محمد شريفي” و”مداني بلمدني” و”صباح التوزاني”، فضلا عن “محمد شهيد” و”عبد العزيز فتوحي” و”صلاح طيبي” و”فريدة محمودي” و”جلال التوزاني” و”محمد ايمجان”، وكذا عبد السلام يندوز وعبد المجيد هيمص رحمهما الله تعالى وغيرهم كثير من تجارب تشكيلية متميزة لاحقة من قبيل “جميلة الطالب” وغيرها.

هكذا بقدر ما يمكن تلمسه في “ريبرتوار” هؤلاء، وخريطة تجاربهم، وطبيعة مسارهم، من قيمة مضافة لفائدة مكمن تشكيل بجدل مادة ولون وكتل وأشكال وانفعالات ومعان وصباغات وتماسات، بقدر ما يتبين أن تازة كانت حقا مدينة تشكيل بامتياز، وحقلاً خصبا لتجارب وأسماء تعبيرية ريادية كانت بما كانت عليه من مشهد أعمال، حظيت بما حظيت به من حضن معبر وقراءات وثناء وإعجاب هنا وهناك عبر أروقة عرض وازنة داخل المغرب وخارجه.

ولعل أن فضاءات المدينة كانت بتباين معبر في علاقتها بما كانت عليه من ذاكرة فنية تعبيرية جمالية تشكيلية الى عهد قريب، سواء تعلق الأمر بقاعة دار الشباب “أنوال”، وما احتضنته من زخم فكري فني جمعوي تشكيلي لسنوات، أو بهو المعهد الموسيقي، فكثيرا ما كان مساحة أشكال تعبيري بصري وقراءات وتلاقح تجارب مدارس فنية تشكيلية وطنية، أو بهو بلدية تازة على إيقاع طابع عمارة “كولونيالية” جاذبة، كانت قبلة مواعيد جمالية عدة غير خافية عن كل متتبع وفاعل، فضلاً عما كانت تشهده ما كان يعرف بتازة العليا، المدينة القديمة، بقاعة المشور (المدرسة المرينية الأثرية) من حياة عرض ووقع ونبض تشكيلي من حين لآخر، ناهيك عن قاعة بعبق زمن وروح خاصة شهيرة في تازة الجديدة تدعى “ميموزا”، تلك التي ارتبطت بما هو فني تشكيلي أساسا منذ افتتاحها خلال تسعينات القرن الماضي بدعم وصلة عن بلدية المدينة، على عالم ثقافة المدينة واجناسها وأعلامها وتجاربها واسماءها، نظراً لِما احتضنته “ميموزا” هذه الذاكرة من لغة وكتل وتوقيع تشكيل، وكذا من افتتاح وتأطير وتنوير وقراءات وفكر وجدل تشكيليين مبدعين وعارفين باحثين.

رحاب من المدينة وغيرها من فضاءات مؤسسات، تحفظ ذاكرتها ما كانت عليه تازة من احتفاء بزخم عطاء تشكيل وتعبير رفيع، فضلاً عن ملتقيات وطنية بلغت ما بلغته من تراكم تجارب وأسئلة أسماء ودورات، واكبناها آنذاك خلال تسعينات القرن الماضي، من خلال عشرات المقالات باتت لا شك أرشيفا من أجل فكرة وتأمل وقراءة وبحث.

ملتقيات تازة التشكيلية الوطنية هذه كثيرا ما كانت تؤثثها ثقافة تواصل وبرمجة خاصة، كالتي كانت تعتمدها الجهات المنظمة تقنيا في لقائها بجمهورها خلال كل دورة، عبر افتتاحيات تنويرية بتقنية تسليط صور ثابتة أو من خلال أشرطة نصية مصورة، بقدر ما تستحضر روح مدينة، وزمن وتراث رمزي محلي وحضارة، بقدر ما تضع ضيوف اللقاء في الصورة والموعد حول تشكيل المدينة الفني، واعلامه، وطبيعة جديد مجاله في علاقة بما هو محلي وطني ودولي، فضلا عما كان يطبع ملتقيات تازة الوطنية للفنون التشكيلية هذه، من تيمة ندوات ختامية رفيعة من قبيل ما هو حوار حضاري فني، ومفاهيم وتجارب مغربية وهوية وتباين قيم واختلاف وخصوصية وقضايا ناشئة وتربية وفن تعبير وغيرها، تلك التي كثيرا ما كانت تؤطرها أسماء جامعة بين معرفة وفعل وبحث في شتى دروب ومسالك ما هو بصِلة.

تازة بملتقياتها الفنية التشكيلية هذه لسنوات، أسست ما أسست بالمدينة من رؤية وثقافة صورة لفائدة متلقي، وأثثت ما أثثت من فضاءات وإطارات تشكيلية ومواعيد استهدفت قيم اجتهاد في الشأن، فضلا عن تنافس شريف وفرص عرض، وتواصل الى جانب قيم تحفيز وسمو بموضوع ولقاء فني وذوق جمهور، كما أنها أيضا قربت ما قربت من مسافات بين تجارب وأسماء هنا وهناك من داخل البلاد وخارجها، ورسخت ما رسخت من ثقافة تعبير جمالي، ولغة لوحة لدى الجمهور والناشئة، وأغنت ما اغنت به البيئة المحلية من تساؤلات وقراءات وتأثير وتأثر وتنشئة على ثقافة حمولة وخلفيات صورة وتفكيك تعبير، وكذا استضافت ما استضافت من أسماء وتجارب جمالية واقعية وسريالية وتجريدية وانطباعية وتكعيبية وعصامية وغيرها.

هكذا كانت تازة التشكيلية الى عهد قريب رغم ما كان من تحديات وشروط تنظيم حاضنة لهذا التعبير الجمالي، رافعة من شأن هذا التعبير الجمالي، ومن شأن أهله هنا وهناك من كل ربوع البلاد، وهكذا كانت تازة بفعلها وتفاعلها الفني التشكيلي وأعلامها ومجتمعها المدني وملتقياتها الوطنية، علامة مشرقة بارزة ومتدفقة في سماء التشكيل والفنون البصرية المغربية الجميلة عموما لسنوات من زمن مغرب راهن.  

أين تازة الآن من زخم طبع المدينة وهذا الشأن الى عهد قريب؟، وأين يرتب ويصنف ويفهرس إيقاع تشكيل تازة وتشكيلييها الآن؟، على مستوى بناء صورةٍ وفعلٍ ريشة ولوحة وتوزع لون ومتعة بصر، ومن ثمة تربية ما ينبغي على ذوق وتأمل وموقف ورأي وقيم.

وأين اختفى ما كان يؤثث المدينة من مجتمع مدني حاضن لجنس فني وتعبير جمالي مؤطر رفيع؟، بعدما كانت عليه جمعية “فضاء المغارات للفنون التشكيلية” ومعها “جمعة العبور” من فعل مدني رفيع المستوى، رسالة حملت حلما وايقاعا الى عهد قريب، وبعدما كان يملأ تازة من ملتقيات وطنية نبيلة، وطروحات فكرية، وتوقيعات وطيف تجارب عن هذه المدينة والجهة من المغرب وتلك، وما سر ما كانت عليه تازة من تنوع مشهد ثقافة ومادة وتعبير قبل ما يبدو من قطبية.

بل من رأي المدينة العام، من يتساءل عن سر بياضبات حال مجال فنون بصرية تشكيلية، مع غياب فعل وتفعيل يخص ما هي عليه تازة من تجارب، ليست بما ينبغي من اجراء واعتبار وقرب كمتعة بصر وأروقة ومواعيد، فضلا عن تساؤلات عما يبدو جليا من هامش وتهميش رغم ما هناك من فكر ورصيد وذاكرة رافعة لحقل الثقافة والإبداع.

وعن سرما يطبع أيضا عجين تازة الثقافي من نمط بات واحدا أوحدا منذ سنوات، عوض ما ينبغي من نظر وتجرد في أفق منشود صوب تنمية محلية واستشراف نخب وموارد فنية ومستقبل ثقافة مدينة، وفي أفق، أيضا، مشهد ابداع بدينامية جامعة لكل الطيف من اجل ما ينبغي من منبت وإنبات عبر ما هناك من أصول وأسماء وتجارب.

هكذا يسجل لتشكيل تازة الذي بحوالي نصف قرن من الكيان، منه ما هو مرتب ضمن إنسانية تراث، إنها جزء لا يتجزأ من هوية ثقافة مدينة وبيئة تعبيرية محلية، وإنها بإسهامات عدة داخل البلاد وخارجها أغنت بها ما أغنت من حضور وخطاب تشكيلي مغربي في بعده الحضاري الرمزي.

يبقى ختاما أهمية الإشارة الى أن كل ابداع، ومن ثمة ثقافة عموما، هو وعي بما ينبغي صوب عوالم أنفس مجتمع، تلك التي هي بحاجة لأنسجة من شأنها بلوغ إنسانية إنسان.

وعليه، فعالم فنون الأبعاد الثلاثة كما يفضل تسميتها الأمريكي “برنارد مايرز”، الباحث في المجال، تلك التي كانت بوقع خاص بتازة الى عهد قريب، عالم هذه الفنون هو بحاجة لالتفات بنية، وليس حدث، من قِبل الجميع كل من موقعه، جهات وصية منتخبين أسماء فاعلة إعلام ورأي مجتمع مدني، ليس فقط لِما لهذا التعبير من أهمية في تكامل صورة فعل ثقافي، ومن تنوير لقارئ وتملقي وناشئة، إنما أيضا لِما تحفظه ذاكرة المدينة، وما هي عليه من ذخيرة تجارب وأسماء، من المهم والمفيد استثمارها ضمن ما ينبغي من تلاقح أجيال وتنويع مشهد، عوض كائن جامع بين تدوير ذات مع نمط وبياضات إلى حين.

عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

التعليقات مغلقة.