التطبيع الثقـافــي والفنــي (الحضرة الشاونية نموذج)

فاس / عبد الإله شفيشو 

تبنى قادة الكيان الصهيوني منذ لحظة ما قبل التأسيس الرسمي (1948) مشروعا متعدد الأشكال تتداخل فيه الجوانب العسكرية والسياسية بالأبعاد الثقافية والدينية، وإذا كان العامل العسكري وامتلاك القوة هو الضمانة الأساسية لاستمرار هذا الكيان المصطنع فإن التطبيع الثقافي يمثل في الاستراتيجية “الإسرائيلية” أهم وسيلة لربح معركة الوعي و احتلال العقول وتزييف الحقائق التاريخية، فالمعركة مع “إسرائيل” معركة ثقافية وفنّية، لا عسكريّة واقتصاديّة فقط، وهي أكثرُ مَن يدرك ذلك، ولهذا تَجْهد في طمس وجهها الدموي من خلال إبراز وجهها الثقافي والفنّي والإنساني.

من هذا الموقعا فإن الدعوة إلى مقاطعة أي مشاركة فنية أو ثقافية في “إسرائيل” هي دعوة من أجل صون الفن والثقافة من الاستغلال “الإسرائيلي”، وسنحاول في هذا المقال تفكيك وإعادة بناء ظاهرة التطبيع الثقافي من خلال طرح اشكاليتين: ما مفهوم التطبيع الثقافي و أبعاده؟ ما الحجج والمبررات التي يرتكز عليها المطبعون للتطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني؟ (الحضرة الشاونية نموذجا).

 

مفهوم التطبيع الثقافي وأبعاده:

يطل علينا دعاة التقارب الثقافي مع “إسرائيل” بانتظام، ويكون ذلك في شكل تطبيع سافرن شأن تنظيم حفلات مشتركة وعرضها على الملإن كما فعلت مجموعة “الحضرة الشاونية” حين بثت حفلة في “إسرائيل” بمشاركة عازفين ومغنين “إسرائيليين”، و الهدف منه  هو جعل الوجود الصهيوني في بلدنا طبيعيا من خلال التعامل معه ثقافيا عبر الزيارات والمشاركة في اللقاءات والمؤتمرات التي يحضرها صهاينة، وتتم برعاية وإشراف “إسرائيلي”، وبالتالي فهو في المطلق نهج وأداء وعقلية جوهرها كسرحاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، سواء كانت ثقافية أو إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو دينية أو أمنية أو استراتيجية وغيرها، وإذا كان المثقف والفنان صوت الأمة ولسانها، ودوره محوري في الدفاع عن قضايا الوطن، وعلى ضوئه يتلمس الشعب طريقه نحو التحرر السياسي والاقتصادي والثقافي، فإن دوائر صنع القرار العسكري والسياسي في “إسرائيل” وبعض الدوائر الرسميةالعربية التي قد تفطنت إلى أهمية التطبيع الثقافي في ترسيخ الهزيمة الحضارية لذلك شجعته ورعته ماديا لتسهيل أداء رسالته.

في هذا الشأن يمكن الرجوع لتاريخ التطبيع الثقافي ومساراته لرصد الكثير من النماذج و الأمثلة مقابل جوائز مادية و شواهد فخرية كأداةلاختراق النخب الثقافية، وقد أثارت زيارات المثقفين والفنانين العرب ل”إسرائيل” ردود فعل شعبية غاضبة، اتهمت أصحابها بالعمالة والارتباط بالمشروع الصهيوني، وعلى هذا الأساس اتخذت عدة إجراءات كان من أبرزها الحصار والمقاطعة.

 

مبررات المطبعين للتطبيع الثقافي:

أ ـ التطبيع ضرورة ثقافية !، هنا بيت القصيد بحيث يختبئ مطبعوا ومطبعات “الحضرة الشاونية” ومن يدور في فلكهم، حيث يشددون على أن العالم قرية كبيرةن وأنه مليء ب”الإسرائيليين”، ويتساءلون هل تريدوننا أن ننقطع عن العالم؟، هل ينبغي أن نكونَ ضد الأديان والأعراق الأخرى؟، هنا يتعمد المطبعون إظهار الرافضين للتطبيع وكأنهم ضد التواصل مع اليهود، كأتباع ديانة سماوية، لا ضد التطبيع مع إسرائيل ككيان احتلالي تهجيري دموي، كما أنهم يجهلون أو يتجاهلون أنهم بإمكانهم الذهاب إلى غالبية الملتقيات العالمية، إنما ضمن شروط تمليها عليهم واجباتهم تجاه وطنهم وأمتهم ومقدساتهم وإنسانيتهم، ذلك لأن عزل الثقافة والفن عن السياسة هو تماما ما يريده الكيان “الإسرائيلي” من أجل تغليف احتلاله البشع من خلال ملتقيات إنسانية وحضارية لماعة.

ب ـ التطبيع ضرورة وطنية تحتمها معرفةالعدو!، فكلما تحدثنا عن رفضنا للتطبيع الثقافي انبرى البعضُ لإطلاق شعار (اعرفْ عدوَّك)، والحق، مِن واجبنا معرفة عدونا ثقافيّا وأكاديميا وسينمائيا الخ…، لكنْ من دون فرضِه على فضاءنا الثقافي العام، وفي إطار اعتبار التطبيع مع العدو ضرورة وطنيّة يأتي كلامُ البعض عن لزوم الحوار مع وسائل الإعلام “الإسرائيليّة” من أجل اختراق الوعي “الإسرائيلي”، غير أن “الإسرائيلي” لا ينتظر هذا المثقف أو الفنان المغربي كي ينوره في شأن ما ترتكبه دولته أمام عينيْه منذ 7 عقود.

 

من أقوال العرب نجد قولهم (حبك للشيء يعمي ويصم)، وحب هؤلاء المثقفين والفنانين من أمثال مجموعة “الحضرة الشاونية” هاته للمال والشهرة يجعلهم يعتقدون أن الذراع “الإسرائيلية” الطويلة في دنيا الثقافة والإعلام يمكن أن تباركهم وتمتد لتنتشلهم وترمي بهم في سماء العالمية الرحب حالما يحتكون بها ويخفضون لها جناح الذل، لكن يفوتهم أن “إسرائيل” دأبت على الأخذ من الجميع، ولم تتعلم أن تمنح أحدا شيئا.

كثيرا ما يتخذ التطبيع عند هذه الفئة من المثقفين والفنانين عناوين نبيلة ويغلف بالعديد من النوايا الطيبة كاعتبار الانفتاح على الثقافة “الإسرائيلية” ضرورة قومية، وحجتهم أن “الإسرائيليين” متحررون من هذه العقدة، وأنهم يعملون على معرفة هذا الآخر، لكن هيهات! فالموقف لم يكن يوما بهذه البساطة والسطحية، فالمدان حقا هو هذا التعاطي المباشر مع المحتل، ومد قنوات التواصل معه بما يكسر حاجز العداء، ويرفع عنه الحرج، ويمهد إلى التسليم في الحقوق والقبول بالأمر الواقع، وينزع عنه صفة الكيان الغاصب للأرض والمعادي للقيم الإنسانيةن ويشجع على التغاضي عن كونه يجرم في حق الإنسانية، ويمارس التطهير العرقي، وينشر الحقد والكراهية، ويمعن في سياسته العنصرية.

كان الأستاذ الجامعي الباكستاني الراحل “إقبال أحمد” يقول لطلابه: (كل ليلة قبل أن تضعوا رؤوسَكم على المخدّة اسألوا أنفسَكم: ماذا فعلنا من أجل فلسطين؟)، فلنكن جزءًا من مقاطعة ومناهضة وفضح هؤلاء المطبعين فلا نجاح لهما إلا بكم.

التعليقات مغلقة.