ائتلاف المباني الأثرية بتازة أمام أعين المديرية الاقليمية للثقافة

عبد السلام انويكًة 

تعتز كل مدينة من مدن المغرب التاريخية عموما بما يعبر عن تراثها المادي واللامادي، وعيا منها بقيمة هويتها وكينونتها وبصماتها وامتدادها الانساني في الزمن.

وكثيرة هي المدن التاريخية  التي تتفرد بما هو حضاري أصيل بها من قبيل موقعها ونشأتها ومعالمها وأشكال تعميرها وتعبيرها الثقافي وأنماط عيشها وتقاليدها وفضاءاتها، فضلاً عما هناك ايضا من فنون ومظاهر احتفال وأساطير وتراث عموما.

مع أهمية الإشارة هنا إلى أن ما هو مبان أثرية يشكل جزءا من الوعاء الثقافي في شموليته، وعليه لا شك أن فقدان هذه المكونات لا يقدر بثمن، وعيا بأن حياة الإنسان شهدت تطورات متلاحقة ومتلاقحة منذ القدم لا يمكن تلمسها إلا عبر ما هناك من شاهد، ومن هنا ما ينبغي من حماية وصيانة وتأطير قانوني ومن ضوابط اخلاقية وانسانية وتدبيرية.

في هذا السياق وعلى أساس ما هي عليه من زمن وتلاقح وأزمنة، تعد مدينة تازة من مدن المغرب التاريخية الأصيلة التي تقوم على إرث واسع بروافد واسعة، يؤهلها لتكون بموقع تستحق به صفة ليس فقط تراث وطنيا بل تراثا انسانيا ايضا.

غير أن واقع حال المدينة التراثي مع الأسف تتقاسمه اختلالات على أكثر من مستوى، جعلت تازة خلال السنوات الأخيرة على وقع تراجعات مقلقة في هويتها التاريخية الرمزية والمادية، ومن ثمة ما بات يطبع مكوناتها وتحفها الأثرية من وضع يجمع بين لا مبالاة وتخريب ممنهج وتطاول واستغلال، لدرجة  فقدان المدينة لِما ينبغي من أدوار وتوازنات ثقافية، باعتبارها وعاء عثيقاً تؤثثه مباني اثرية شكلت أساس تصنيفها تراثا وطنيا على ورق لا غير الى حين.

خلافا لِما كان عليه حال مجال مدينة عتيق قبل حوالي الثلاثة عقود مثلا، إذ كثيرة هي مظاهر التلف والاتلاف والعبث والتهجم والاستهتار بمباني أثرية صنفتها مصادر تاريخية وطنية منذ قرون من الزمن، وكذا ظهائر ومراسيم قانونية ورسائل سلطانية وغيرها.

ولعل ما يظهر ويهم حال وأحوال مباني تازة الأثرية من أسوار وأبراج وأبواب قديمة وحصون، يطرح جملة اسئلة مستفزة حول واقع ما هناك من حاجة لأشكال ترميم، وكذا طبيعة حماية وتطبيق قانون واجراءات وتحمل المسؤولية تجاه  مكونات ذاكرة محلية وهوية أهالي ومدينة ووطن.

ويتبين من خلال رأي عام واسع متتبع محلي، أنه بخلاف غيرها من مدن البلاد العتيقة التي أحيطت بما أحيطت به من عناية خلال العقدين الأخيرين في إطار سياسة ومبادرة إنقاذ المباني الأثرية التاريخية، فإن ما سُجل بتازة لا يخرج عن كونه مجرد ترقيعات منتقاة جانبية محتشمة محدودة في قيمتها واهميتها وامتدادها، فضلا عن سطحية، ورش ترميم وتعدد متدخلين ومقاربات واجتهادات احيانا مجانبة للصواب الأثري التراثي الانساني وضوابطه.

بحيث يتبين أن هناك افتقارا لآليات تشاور وتنسيق جادة وتدقيق وتوصيف للشيء، بما في ذلك ما هو معطيات ومعرفة تاريخية بقدر من الصدقية والوثيقة في غياب دراسات شافية داعمة؛ ناهيك عما يسجل من مقاربة قطاعية ضيقة تبدو أنها كانت دون رؤية شمولية من شأنها تحقيق تأثير على أنسجة وأنظمة تازة العتيقة، وعليه، ليس سهلا الحديث عن اعادة الاعتبار، ومن ثمة تأهيل مجال المدينة الأصيل، دون خريطة طريق مؤسسة تشاركية تبصرية، ودون استراتيجية تدخل بوعي وفهم استشرافي بعيدا عما هو خربشات ظرفية تزويقية، يغيب عنها ما هو موارد زمنية كائنة وسبل تعبئة ممكنة من أجل بلوغ المنشود من تطلعات المدينة ومن ثمة تطلعات المجتمع ومعه تنمية محلية.

وحول ما هو بحاجة لإنقاذ وتأهيل وترميم ورد للاعتبار ولرقابة ومساءلة وفحص ووقف لتجاوزات، وما هو مهدد وآيل للسقوط من بنايات تاريخية على أساس ما هو مسجل لدى الجهات المعنية، يمكن الحديث عن وضع مهول كائن مثير للقلق يخص مجال تازة العتيق.

خاصة وأن المدينة توجد بموضع صخري تتقاسم أعماقه مسالك باطنية تتبين من خلال ما هناك من كهوف وتجويفات جانبية محيطة، وربما فراغات على مستوى سطحه غير معروف كيف غمرت مع الزمن وتم تعميرها والبناء بها.

وعليه، بنايات أثرية عدة هنا وهناك مثبتة فقط بأعمدة خشبية داخل مجال المدينة العتيق، وهي مشاهد باتت مألوفة، ولولا أعمدة الوقاية هذه لتساقطت هذه البنايات منذ زمان.

نسوق في هذا الاطار نموذجا يخص إقامة تعليمية عتيقة كانت تابعة لجامع المدينة الأعظم، وهي بناية أثرية لا شك في ذلك لكن هل هذه البناية هي مدرسة أم اقامة لطلبة، وهذا أمر بحاجة لتدقيق في غياب إشارات تاريخية مصدرية شافية.

في هذا السياق رغم أهمية إفادة الإسحاقي الوزير من خلال مذكراته الحجية، وما قد يكون حصل له من خلط فيما جاء به وأشار اليه، يُعتقد أن هذه البناية ليست مرينية بل شيدت خلال فترة لاحقة بدليل ما جاء في مصدر تاريخي، وقد أورد أن السلطان سيدي محمد ابن عبد الله بنى بتازة مدرسة بجامعها.

ولعلها الإشارة نفسها التي وردت في مصدر آخر أشار في حديثه عن بناء هذا الأخير لمآثر بالبلاد وإصلاحه لأخرى، وعن فضائل هذا السلطان في المآثر والعمارة وقد تكون إشارة هؤلاء تقصد عملية ترميم وليس بناء.

ومن جملة ما أورده العقيد “فوانو” الفرنسي في تقريره “تازة وغياتة” حول معالم تازة الأثرية، إشارته إلى أن البناية التي تقابل جامع تازة الأعظم، بُنيت أواسط ستينات القرن الثامن عشر زمن سيدي محمد بن عبد الله؛ والذي تذكر الرواية التاريخية أن عنايته بتازة كان من خلال تشييده لـ(مدرستين) أو (إقامتين) لمن كان يتلقى دروسه بجامعها الأعظم، لعل الأولى تلك التي تقابل بابه الرئيسي من جهة الجنوب، ولا تزال معالمها شاهدة، إنما في حالة متدهورة جدا وبحاجة إلى إنقاذ وكانت تتوفر على عشرين غرفة وساحة تتوسطها مع مرفق للنظافة وتتزود بمياه تنقل عبر قناة إلى الجامع الأعظم، أما الثانية فكانت ربما خارج السور الأثري للمدينة غير بعيد عن باب الجمعة شرقاً وقد اندثرت معالمها، وقد يكون من بقاياها معالم اسوار مدفونة في الارض غير بعيد عن ضريح سيدي عيسى وقد يتم طمسها نهائيا في اية لحظة لكونها ملتصقة بالطريق الرابط بين تازة العليا وتازة السفلى.

ومن هنا أهمية ما ينبغي من عما انقاذ وتشارك في عمل الانقاذ ورد الاعتبار لمعالم المدينة التاريخية.

وبعيداً عن هذه النماذج وأشكال التلف والاتلاف الأثري والعبث، يبقى أن تازة العتيقة بحاجة إلى إعادة جاذبية إليها إن صح هذا التعبير، وبحاجة إلى إنعاش ما تحتويه من مكون ثقافي حضاري مادي ولا مادي، وعيا بما هنالك من كائن وواقع حال منذ سنوات ومن نزيف وفقدان توازن وقيمة مجال عتيق، فضلاً عما ينبغي من تعبئة لتدخلات من شأنها التخفيف على الاقل من أثر ما بات ظاهرا ومؤثرا من اختلالات متداخلة، عبر ما ينبغي من تحفيز استقرار إن لم نقل إعادة توطين عبر مقترحات داعمة، مع أهمية تثمين المجال العتيق في علاقته بما هو تراثيفي أفق جعل موارد الزمن أكثر انسجاماً مع حاجيات ورهان التنمية محلياً.

وحول تازة المدينة العتيقة التي ينبغي أن تكون متوازنة منتجة لثروتها وتفاعلها إسوة بباقي مدن البلاد العتيقة، فرغم ما تم الحديث عنه منذ سنوات وربما منذ عقود من الزمن حول أهمية معالمها الأثرية ومؤهلاتها السياحية الثقافية التي عقدت من أجلها عشرات الندوات منذ بداية تسعينات القرن الماضي، وكانت هذه المواعيد دوما تنهي بتوصيات تقول بأهمية الترافع وتجميع جهود كل الأطراف المعنية من مؤسسات عمومية ومجتمع مدني وغيرهما، من أجل تصنيف المدينة تراثا وطنيا على الأقل قبل فوات الأوان وهذا ما حصل لكن على الورق لا غير علما أن عبرة التصنيف هي بواقع الحال، ولعل الصورة قد يختصرها واقع المدينة العتيقة الحالي وواقع وحالة “باب الريح” الرهيبة المنكوبة، وحالة باب الجمعة المقززة وحالة الحصن السعدي (البستيون) المخيف، وحالة “كيفان بلغماري” برمزيتها الأنتروبولوجية الأركيولوجية الانسانية…

وغير هذا وذاك من معالم المدينة التي توجد ضمن وضعيات ملتبسة من حيث استغلالها أو في وضع يرثى له لشدة ما يسجل بها من اهمال ولامبالاة وتجاوزات بحاجة لافتحاص، وعياً بأنها ملك ليس لأحد بل للمغاربة والإنسانية وذاكرة لا ينبغي العبث بها في كل الأحوال وكيفما كان المبرر.

ويظهر أنه على الرغم من كل ما انشغل به مهتمون وفاعلون ومدبرون للشأن المحلي على امتداد عقود، حول رهان المدينة السياحي وأهمية حماية مبانيها الأثرية باعتبارها رأسمال اساسي، يبدو أن واقع المدينة ليس سوى موت سريري وأن كل شيء تبخر، وما تم بلوغه من التطلعات في هذا الإطار لا يزال خجولا جدا.

والواقع أن جاذبية المدينة العتيقة، تازة العليا، لا زالت محدودة جداً والحديث هنا ذو شجون حول السبب والتجليات، فضلاً عما هناك من حاجة لجهود ينبغي أن يسهم وينخرط فيها الجميع كل من موقعه بما في ذلك الساكنة. ناهيك عما هو تقني داعم وتعريفي وإشعاعي وظيفي داعم لهذا الرهان بعيدا عما هو بهرجة وهدر مال المدينة العام وما يسجل من قوقعة وخربشات دون فائدة، بحيث لا بد من جهود إرشادية تقوم على دلائل ولوحات تعريفية وخرائط توجيهية هنا وهناك، والتي من شأنها تسهيل ولوجية المجال العتيق وتحقيق جاذبيته، وكلما كانت هذه العملية سهلة مفيدة ومقنعة كلما انتعشت المدينة، بل من المفيد رسم مسارات سياحية ثقافية تعريفية إشعاعية تاريخية تهم مجال المدينة العتيقة وفق ما ينسجم مع أهم نقاطه ومواقعه الأساسية، ناهيك عن أهمية التفكير جديا وعمليا من أجل تحقيق مدار طرقي مندمج ودامج للمدينة العتيقة عبر آليات منسجمة رافعة، الأمر الذي يقتضي عملا تشاركياً وإنصاتا لكل الأطراف تجنباً لما قد يحصل من هدر للموارد وبالتالي عدم بلوغ المنشود من الأهداف على المدى المتوسط والبعيد، مع أهمية الإشارة لِما يمكن أن يسهم به فعل الثقافة الوظيفي من أدوار، وما يمكن أن تقدمه فرص الترفيه من خدمات على إيقاع ما توجد عليه مدن مغربية عتيقة أخرى، تلك التي تتقاسم تازة معها بعض المشترك على مستوى الموارد الموقع والتاريخ والذاكرة وغيرها.

ومقابل ما هو متوفر من إرث حضاري جعل تازة تراثاً وطنياً منذ حوالي الست سنوات، يسجل أنه بقدر قيمة هذه الالتفاتة بقدر ما هو كائن من واقع تراث المدينة الذي يجمع بين اختلالات عدة ومشاكل عالقة وتجاوزات، تقتضي طرحها وتحديد ما ينبغي من إجراء لإنقاذ رأسمال تازة التاريخي وإنصافه ووضعه رهن إشارة التنمية المحلية من خلال توظيف معقلن واستثمار وسبل إشعاع.

ولعل المدينة بحاجة حماية تراثها مع تدبير أفضل لما هناك من موارد، وكذا وقف أشكال التدهور والاتلاف والعبث والاستغلال العشوائي، على أساس أن العناية بتراث المدينة هو حفظ لذاكرتها وهويتها.

ولا شك أن المهمة صعبة ومكلفة لِما هناك من تداخل بين ما هو إرادة وقانون مؤطر، وبين كلفة تدبير قطاع وتنميته ورد الاعتبار له واستثماره وبين مصالح ذاتية في علاقتها بتراث المدينة.

ناهيك عما يزيد من تعقيد وضع المجال العتيق من نقص في الدراسات التي تهم سبل التدخل والإنقاذ، اللهم ما هناك من تقارير تقنية لمصالح عمومية، إلى جانب قطاعيتها هي غير شافية للخوض في موضوع على بدرجة من التعقيد والحساسية والتقاطع.

ومن هنا ما ينبغي من أبحاث تعميرية قانونية فضلاً عما يمكن أن يسهم به أرشيف المدينة المشتت، من سبل اشتغال صوب ما هو إنمائي استشرافي لفائدة تازة العتيقة التي بات أنين مبانيها الأثرية وأنين ذاكرتها المادية باديا أمام أعين الجميع، بما في ذلك المديرية الاقليمية للثقافة باعتبارها مسؤولة ووصية بقوة القانون الى حين.

مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

التعليقات مغلقة.