في أهمية التوافق الأسري خلال رمضان

الحبيب عكي

يقصد بالتوافق الأسري ذلك النوع من التواصل والتفاهم والتعاون الذي يضمن للأسرة حظها اللازم من التماسك والاستقرار والراحة النفسية والسلامة الجسدية لكل أفرادها على اختلاف أجناسهم وأعمارهم ومراكزهم الأسرية وأدوارهم الاجتماعية.

 

وقد يمتد هذا التوافق الأسري ليكون لبنة أساسية يساهم فيها الجميع من مكانه وبإمكانه من أجل تحقيق أهدافها ونجاح علاقاتها فيما بينها، بل فيما بينها وبين محيطها من الأقارب والجيران والمعارف والعملاء، حيث تسود المحبة والاحترام المتبادل، والتعاون الممكن بدل التجافي والتوتر والصراع الحالق أحيانا.

 

ولا شك أن التوافق الأسري بهذا المعنى يكتسي أهمية قصوى في المجتمع ككل، وفي مؤسسة الأسرة خاصة باعتبارها، كما يقال، نواة المجتمع، وبمثابة البيئة التي يتنفس فيها الأفراد منذ نعومة أظافرهم كل المعارف الجميلة ويتشربون كل القيم النبيلة.

 

فإذا كانت بيئة صافية المياه، نقية الهواء، مسالمة الكائنات، اطمئن على أفرادها وسلامة نموهم وتطورهم؛ وإذا كانت موبوءة ملوثة خيف على يراعها قبل يراقها وفراشها من التلوث والاختناق وكل أنواع الاحتباس المزمن والتفكك المدمر والهشاشة البنيوية التي لا أسرة تبقي ولا أفراد صالحين مصلحين تنتج.

 

ترى، ما هي معيقات التوافق الأسري خلال رمضان وفي غيره؟، كيف يمكن تحقيقه وتنميته في أسرنا وفي الممكن من محيطها؟، ما دور رمضان في كذا مشروع تربوي واجتماعي هام وأساسي؟، أيهما أهم، صوم رمضان كما نريد وإن غضب من غضب، أم صومه والحفاظ على العلاقات كما ينبغي؟

 

لأنه في الحقيقة، وعلى عكس ما يعتقد الناس من أن أجمل شيء في رمضان هو جوه الأسري بامتياز، لكون الأسرة تجتمع فيه على مائدة واحدة، وتتمكن من إحياء ما بينها من أواصر المحبة وحقوق الأخوة ورحم القرابة، فتتاح لهم فرص ثمينة لعلاج ما لا يعالج، وقد يتمكنون كذلك من ممارسة بعض العبادات الجماعية المشتركة كتلاوة القرآن والصلاة الجماعية التي يبدو الجميع قابلا وفرحا بها، مقبلا وحريصا عليها، متعاونا فيها.

 

إلا أن هناك ما قد يعكر هذه الأجواء الأسرية الرمضانية ويحولها من عبادة خالصة إلى مجرد طقس ملزم ينخرط فيه الجميع برغبات متفاوتة، إن لم يكن في بعض الأحيان كارها لها أو على الأقل مفضلا لشيء آخر غيرها وهو في نفس الوقت مباح.

 

وقد نجد لذلك أسبابا موضوعية، كثيرا ما يتم تجاهلها وإن بقيت متقدة متنامية كالنار تحت الرماد لا تلبث أن تتقد فتنحرق وتحرق، ونذكر من ذلك:

 

  • تفاوت الأجيال واختلاف التمثلات: بين من يرى رمضان هكذا ومن يريده غير ذلك، والحالة هذه، يأتي من يفرض رأيه واختياره على الجميع، ويجعل رمضانهم على ما حبب إليه هو، إفطارات وصدقات أو خرجات وسهرات أو أورادا وتهجدات..، دون مراعاة لميولات الآخرين واهتماماتهم وقدراتهم.

 

  • تعدد السلطات ومراكز القرار داخل الأسرة: أو احتكارها من طرف الكبار وتضاربها أحيانا بين الآباء والأمهات، رغم أن الأجواء العامة في الخارج قد تكون هي من تقرر في الحقيقة، وفي تضارب مع الأسرة؟.

 

 

  • اختلاف الأذواق وتفاوت القابليات: وهو أمر مشروع ما لم يمس فرض الصيام في حد ذاته، وما أوجبه الله له، ويبقى الصيام سويعات معدودات وما بعدها طيف واسع من المباحات، من العبث أن نجعلها مباحا واحدا وأوحد.

 

  • تنوع الوضعيات الاجتماعية في الأسرة الواحدة: ممن تضطرهم الظروف للعيش مع أقاربهم من آباء وأبناء وإخوة وأخوات، من معطلين وعانسات، ومسنين ومدمنين، وذوي حاجيات خاصة أو أمراض مزمنة..، لابد من مراعاة وضعياتهم النفسية وقدراتهم التحملية علهم يجدون في رمضانهم ما يرتاحون له.

 

  • الجو العام السائد في المجتمع: والذي يغذي الإعلام الفاسد جوانبه السلبية أكثر من الإيجابية، من هنا إشكالية التعامل مع رياحه المساندة (رمضان العبادة)، ورياحه المعاكسة (رمضان العادة)، فقد يطفئ المرء تلفازه في بيته وتتفرج فيه ابنته عند الجيران، وقد يمنع المرء بعض الترفيه المباح في داره ويسهر ابنه في ملعب الحي والمقهى إلى الفجر…

 

ليس من السهل إذن أن يصوم الجميع رمضان في غياب أو ضعف التوافق الأسري، مما قد يجعله رحمة على البعض ومعاناة على البعض الآخر، بل قد تكون لتلك المعاناة ما بعدها تعلق الأمر بالمعتقدات أو بالتصرفات والمواقف والمعاملات، ويزداد الإشكال تعقيدا أن كل الأطراف من المتشددين أو المتفلتين يتجرؤون ويحملون رمضان مسؤولية تصرفهم المجانب للصواب.

 

من أجل تخفيف حدة هذا التقاطب المشين، ومن أجل رمضان أسري يسعد به الجميع، ويزيد من درجة المحبة والتماسك والتعاون بين كل أفراد الأسرة السعيدة، نقترح ما يلي:

  • بعض المراجعة الجماعية لأهم فقه الصيام: بأي شكل متاح، حتى يتم تحريره من الغلو في العبادات والاستسلام للعادات، فيكون أمرا مرجعيا وسطا يسع الجميع.

 

  • الحرص قبل كل شيء وبعده على الاحترام المتبادل: بين كل الأشخاص في الأسرة، واعتبار أجناسهم وأعمارهم، أحوالهم وظروفهم، ميولاتهم وقدراتهم حق الاعتبار، فالله تعالى قد شرع الأعذار لأصحابها وخفف عنهم.

 

  • ترك أمر العباد لرب العباد، ولا يسأل المرء إلا عن نفسه وأهله: ومدى إعطائه القدوة بينهم، وتبقى كل الأمور التي تهم الآخرين، إنما هي دعوة، وبالتي هي أحسن: “ادفع بالتي هي أحسن”.

 

  • لا بد من الحد الأدنى من تحقيق مسؤولية الانتماء للأسرة: بما فيها من الحقوق والواجبات، مع ما يستلزمه ذلك من قيم التشاور والتعاون على إنجاز بعض الأعمال، والقيام ببعض العبادات الجماعية المتوافق عليها، خاصة مع الأبناء والبنات ومن باب التدريب والاستئناس والمواكبة، فكم نرتاد معهم من المساجد، وكم ندخل معهم من المطابخ.

 

  • تسجيل الحضور الدائم داخل البيت: آباء وأبناء، خاصة في أوقات بعض البرامج الجماعية المشتركة، أو التكليف بمهمة منزلية، أو مجرد الجلوس مع الأهل والأبناء، فلا يليق أن يفتقدونا دائما في المقاهي والملاهي أو حتى في الأنشطة المكثفة.

 

  • بعض التنوع اللازم والمتاح في أنشطة رمضان الفردية والجماعية: بين ما هو علم وتعلم وعبادات وزيارات وأعمال اجتماعية وترفيهية مباحة وغير ذلك من حاجيات الناس الفكرية والنفسية، الروحية والجسدية التي تمنحنا التوازن والقوة.

 

في غير رمضان، بعض الأسر إذا صام فيها الآباء الأجر، لا تكاد توقد النار في ذلك البيت طوال النهار، لأن الكبار صائمون.

 

وفي رمضان لا أدري بماذا يفطر الصغار في بعض الأسر غير بعض البقايا والفتاة البارد مما تبقى من الليل.

 

ومن لا يصومون من ذوي الأمراض المزمنة المتقدمة، ألا يصومون أحيانا إلا عن الماء والأدوية؟، كثيرة هي التمثلات السلبية التي تلصق برمضان في وقتنا المعاصر، وهي من جهة افتراء وظلم وعدوان ينم عن جهل مركب، ومن جهة أخرى جراء بعض تصرفاتنا الخاطئة في رمضان، وهو المفروض أن نحرص فيه على التقوى كما أمرنا الله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون “البقرة/183.

 

والتقوى أن نؤتي كل ذي حق حقه، لا نَظْلِمُ ولا نُظْلَمُ، فاحرص أخي/أختي على توافقك الأسري وابذل في سبيله كل شيء، تحرص على تكوين وتدبير أسرة مستقرة، متماسكة، منتجة، حامية موجهة، بيئتها نقية صافية، وقيمها جامعة بانية، وعيشها عيش جماعي ولا أرغد.

التعليقات مغلقة.