الرباط تحتفي بالمؤرخ “جرمان عياش” أحد رواد المدرسة البحثية التاريخية المغربية

عبد السلام انويكًة

هو واحد من أهم وأبرز الباحثين المؤرخين المغاربة المعاصرين عن الجيل الأول أو ما يعرف في الوسط الجامعي بجيل الرواد، الذي تفرغ للدرس التاريخي وتدريس مادة التاريخ بالجامعة المغربية بعد استقلال البلاد على امتداد حوالي ثلاثة عقود من زمن ذهبي تأسيسي.

ولد بمدينة “السعيدية”، سنة 1915، من أسرة مغربية يهودية تنحدر من قبائل آيت عياش بحوض ملوية، أما نشأته فقد كانت بمدينة “بركان” المجاورة، قبل انتقاله إلى مدينة “تلمسان” الجزائرية حيث قضى فترة تعليمه الابتدائي، وقبل عودته لمدينة “وجدة” التي انتقل منها صوب العاصمة “الرباط” حيث تابع دراسته، ليلتحق للتدريس بثانوية ليوطي (ثانوية محمد الخامس حاليا).

التجربة التي ارتأى بعدها التوجه لفرنسا لاستكمال دراسته العليا، حيث استقر في مدينة “بوردو” التي حصل من جامعتها على شهادة تبريز في الآداب، وعمره لم يتجاوز 21 سنة، كان ذلك سنة 1935 قبل أن يعود الى وطنه المغرب قبيل الاستقلال بعدة سنوات، ليلتحق بكلية الآداب في الرباط كأستاذ لمادة التاريخ.

 

ذلك هو الأستاذ الراحل، جرمان عياش، المؤرخ وأحد أقطاب المدرسة التاريخية المغربية المعاصرة، الذي تشبع مبكرا بفلسفة ماركس ومبادئ الشيوعية، فكان عضوا في فرع الحزب الشيوعي الفرنسي بالمغرب وأحد وجوهه البارزة، ولعل انتماءه الحزبي كان مقلقا لسلطات الحماية الفرنسية، من خلال نضاله ودفاعه عن القضايا الوطنية المغربية وحقوق الشعب المغربي في الحرية والكرامة.

 

وعليه، صدر في حقه الأمر بنقله للعمل بسلك التعليم بفرنسا مطلع خمسينات القرن الماضي، ولم يعد للمغرب إلا غداة الاستقلال، ليشتغل بالدرس الجامعي والبحث التاريخي، ويهتم بترتيب الوثائق والأرشيف المخزني.

 

هكذا كان الراحل ضمن الفوج الأول المؤسس، وضمن أساتذة شعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط إثر إحداث جامعة “محمد الخامس” سنة 1957، قبل تكليفه بمهمة إدارة تحرير مجلة “هسبيرس تمودا” الشهيرة سنة 1960، والتي ظل يشرف عليها وعلى موادها وإصدارها حتى وفاته بمدينة “نيس” الفرنسية يوم 3 غشت 1990.

 

ولعل فقيد البحث التاريخي وشعبة التاريخ بكلية الآداب بالرباط هذا، من الباحثين المؤرخين المغاربة المرموقين الذي كان بمدرسة بحثية تاريخية ذات معالم وقناعات جدل وسبل اشتغال خاص؛ بقدر ما كان عليه من عمق وطني مغربي وبقدر ما كان أمميا رافضا لكل ما هو امبريالي وصهيوني داعما للحق الفلسطيني.

ويسجل للفقيد أنه كان بدرس تاريخي وبحث وأستاذية رفيعة منذ ستينات والى غاية ثمانينات القرن الماضي، ليتتلمذ على يديه ونهجه وضمن مدرسته التاريخية، باحثون كبار من قبيل “عبد الرحمن المودن”، “أحمد توفيق”، “محمد كنبيب”، “محمد الأمين البزاز”، “خالد بن الصغير”، وغيرهم كثير ممن حمل نهجه ومشعله فيما بعد، فكانوا حقا روادا وجيلا ذهبيا طبع الجامعة المغربية، خلف ما خلف من أعمال ودراسات تفخر بها الخزانة التاريخية المغربية، تلك التي لا تزال مرجعا ونهجا بالنسبة للباحثين والدارسين للعلوم الانسانية والاجتماعية.

 

ويسجل ل”جرمان عياش” فضلا عما كان عليه من تكوين ودرس واشراف وتأطير لعشرات الأطروحات الرفيعة المستوى، ما خلفه من مؤلفات في حقل تاريخ المغرب وقضاياه، أهمها كتاب “أصول حرب الريف” الذي أثار بعض الجدل بسبب ما رسمه من صورة لبطل ورمز الريف “محمد بن عبد الكريم الخطابي”، وهو الكتاب نفسه الذي أصدرت ابنته جزأه الثاني بعد سنوات من وفاته، تحت عنوان “حرب الريف”، إضافة لكتابه “دراسات في تاريخ المغرب”، الذي صدر في ثمانينات القرن الماضي، وقد تناول فيه جوانب اجتماعية واقتصادية عدة من تاريخ المغرب.

 

“جرمان عياش” رائد تاريخ المغرب والجامعة المغربية على امتداد عقود من الزمن، هو الذي ارتأته “مؤسسة فكر للتنمية والثقافة والعلوم” محور وموضوع ندوة لها، ضمن أشغالها وبرنامجها وورشها الرمزي المتميز “أعلام في الذاكرة”، الذي سينظم برحاب كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط يوم 8 يونيو 2023، من خلال مساحة قراءات ومقاربات وتأملات بعيون باحثين ومؤرخين مغاربة عن مراكز بحث ومؤسسات جامعية بمدن الرباط، الدار البيضاء، القنيطرة، فاس ومراكش وغيرها.

 

ولعل اللقاء هو إنصات مستحق، والتفاتة مستحقة، وتكريم مستحق أيضا لروح اسم وفكر ونهج ومدرسة وأستاذ أعطى الكثير لحقل البحث في العلوم الاجتماعية والانسانية بالجامعة المغربية ولحقل التاريخ والبحث التاريخي خاصة.

 ولعل استحضار روح أعلام فكر ودرس وجامعة مغرب الأمس من قبيل روح “جرمان عياش”، هو تثمين واعتبار لِما قام به هذا الأخير من أعمال ومنجزات، وما كان عليه من إضافات، ومن خلاله هو اعتبار ايضا لِما هناك من غنى ذاكرة جمعية مغربية جامعية، من المفيد اطلاع الناشئة ومعها الجيل الجديد من الباحثين المغاربة الشباب، على ما كان عليه سلف الجامعة المغربية من بذل وعطاء ودرس وبحث وتأطير وتأسيس من أجل ما ينبغي من روح تلاقح.

ولعل ل”مؤسسة فكر للتنمية والثقافة والعلوم” في شخص رئيسها “الأستاذ محمد الدرويش”، الكاتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم العالي سابقا، فضل ما هناك من ورش وجهد رفيع وحفز بحثي واغناء وجمع وتجميع، هنا وهناك عبر هذا وذاك خدمة لحاضر وأثاث ومستقبل الجامعة المغربية وتطلعاتها.

التعليقات مغلقة.