الحبيب عكي
على عكس الأجيال السابقة، فإن الأجيال الحالية – على ما يبدو – تعاني عوزا شديدا في كل شيء ما عدا التوفر على بعض أدوات التكنولوجيا لمن استطاع إليها سبيلا، أدوات قد توفر لها العديد من اللعب والمتعة والتواصل الافتراضي الكوني، مع شح شديد في فرص الشغل والتشغيل رغم ما تدعيه تلك التقنيات العولمية من فتح آفاق التكوين الرقمي والتشغيل الافتراضي عن بعد والعابر للقارات؟.
أجيال غير الأجيال واهتمامات غير الاهتمامات، لكن استقراء الواقع وما أصبح يسود فيه من ظواهر مقلقة ومقلقة جدا، بطالة معطلين.. احتجاجات معنفة.. هجرة سرية.. قضاء في الأعالي.. تطرف و”تشرميل” أخلاقي.. قبول بأي شيء كان عند الآخرين مما كان يرفض ازدراء إذا ما عرض في الموطن المحلي أو حتى القطري.. قيم تحررية مشاعية في العلاقة بين الجنسين.. ضعف روح المواطنة والسلوك المدني.. كل هذا يؤكد أن الحالة لم تتطور نحو الأفضل؟.
وأكيد أن عوامل متعددة قد أسست لكل هذا الواقع الشبابي المتردي، منها مجهوداتهم الذاتية وما تتسم به من فرط الاستهلاكية والاتكالية، ومنها الظروف الأسرية والاجتماعية وما قد تتسم به من انحلال المنظومة التربوية والقيمية وفساد الذوق والمعنى، ومنها السياسات العمومية للدول وتلاعباتها السياسوية التي لا تروم في كثير منها، وبالأساس غير المراوغة في وعودها الانتخابية، والتنصل من مسؤوليتها اتجاه المواطنين عامة والشباب منهم خاصة.
ولكن لعل أخطر سبب هو التراجع الخطير للوعي الثقافي لدى الأجيال المعاصرة، على عكس ما نشأت عليه الأجيال السابقة من بحبوحة الأنشطة الثقافية.. وقراءة الكتب.. وصراعات إيديولوجية.. وحلقات جامعية.. ومسرحيات ثورية.. وإبداعات فنية.. وفرق رياضية.. ومخيمات صيفية.. وغير ذلك مما كان يصنع من الأطفال والشباب رجالا وأبطالا يقودون الحياة كيفما شاءوا ولا تقودهم كما شاءت؟.
اليوم، كل تلك الحركية التربوية والثقافية قد فترت.. تعثرت.. توقفت.. اضمحلت أو تكاد، فقدت محفزات الاستمرار ووسائل النمو والانتشار وجاذبية الاستقطاب حتى، غزت جماهيرها وسائل العصر المبهرة وتقنياته الساحرة وتطبيقاتها الأخاذة، لتترك فراغا مهولا في حياة النشء من الأطفال والشباب وتقذف بهم في متاهات الغزو الفكري والضياع الثقافي والاستلاب السلوكي، بسم.. وبسم.. وبسم، وما أفدح كل ذلك على الوطن والأمة التي لا تزال تمر عليها عقود وعقود وهي تروم النهوض والتقدم، لكن، وكأنها تنهض نحو القعود وتتقدم نحو الوراء، ولكن، من جانب آخر، فبماذا ستنهض وشبابها قد أبعد عن المعركة أو أدخلها بغير سلاح، اللهم ما قد يكون من سلاح يصوبه في كل مناسبة ضد هويته الدينية و مرجعيته الصحيحة وانتمائه الوطني حتى، بل قد تجد منهم وبشكل متنام، من يحسبون أنفسهم لا قضية لهم ولا ناقة ولا جمل في أية معركة؟.
في الحقيقة، لا نريد التجني على الشباب، فمنهم – ما شاء الله – شباب ناجحون .. متألقون.. مبدعون.. مغامرون.. مقاومون مقاولون مناضلون مجاهدون.. استطاعوا فرض أنفسهم في تخصصاتهم و مقاولاتهم ومشاريعهم بشكل عام. ومنهم النجوم والأبطال .. والأطباء والمهندسون.. الدعاة الناجحون.. وغيرهم من الأطر العليا والمواهب الفذة.. لكن استقراء الواقع واستنطاق الإحصائيات، يفيد أن هذه النوعية من الشباب ليسوا هم الأغلبية ولا هم الكتلة الحرجة التي يمكن أن تحدث المنتظر من التغيير والإصلاح.
فإذا – صح ضجيج الأرقام – فإن “مركز الشباب العربي” قد أورد في استبيانه لسنة 2020 ، أن في العالم العربي حوالي 30 % شباب بطالي، و75 % لا يتوفرون على تغطية صحية، و82 % لا يمارسون أي نشاط ترفيهي، وحوالي 60 ٍ% يرغبون في هجرة بلدانهم، و حوالي 30 % فقط متزوجون، و95% متعلمون، و 80 % يستقون أخبارهم من مواقع التواصل الاجتماعي، و 24 % فقط يهتمون بالعمل السياسي مقابل 10 إلى 15 % منخرطون في العمل التطوعي، و31 % منهم في مناطق التوتر، منهم 58 % نازحي العالم و 45 % من إرهابيه و68 % من ضحاياه..؟؟.
فإلى القيادات الثقافية في الوطن العربي.. إلى القطاعات الحكومية والجمعيات المدنية.. إلى مؤسسات التنشئة الاجتماعية.. من مدارس وإعداديات وكليات.. إلى دور الشباب والمراكز الثقافية والمخيمات.. ماذا عن شبابنا وتصوره الذاتي عن الأنا والآخر؟، عن محيطه البيئي وعالمه الكوني؟، هل يتصور بإمكانية التغيير والإصلاح أم باستحالته؟، هل له رؤية ومنهجية قابلة للتنزيل.. هل يتصور له دور في ذلك ومن أي مكان وبأي إمكان، أم يرد كل الأدوار إلى غيره وينتظر الذي قد يأتي ولا يأتي؟، لماذا الملايين من خريجي الجامعات العربية – حسب الدارسين – ليس لهم دور ولا قيمة مضافة في تنمية الوطن العربي؟، لماذا يعاقرون الإحباط واليأس ويترنحون اليوم خمر وغدا أمر؟. ما هي قضايا شبابنا من خلال وعيهم الفكري ونهجهم السلوكي وانتمائهم السياسي وحراكهم المدني التطوعي؟. ماذا يقولون في التطرف؟ كيف يواجهون التطبيع؟. أم أن أفق الأفق أكل القوت وانتظار الموت.. وأولوية الدراسة والنجاح ولو بالغش؟.
ويبقى الغريق في ورطته وبفطرته يحاول إنقاذ نفسه قبل الاستنجاد بغيره، وإذا علم من قوم أي قوم نية الإيقاع به فإنه يقاوم حتى آخر رمق ولا يستسلم. قد يكون السياسيون والمثقفون والحركيون والمدنيون وغيرهم من الظروفيون والغضروفيون من هؤلاء القوم كما قلنا، وبشكل ما، قد يكونون مسؤولون عن وضع المواطنين عامة و عن وضع الشباب بصفة خاصة، لكن أبدا يظل الشباب أول المسؤولين عن نفسه وعليه تقع مسؤولية إنقاذها من براثين الجهل والتخلف الثقافي والانحراف السلوكي المعرفي والقيمي..، فهل يمكن أن يسلك الطريق الصحيح والموصل؟، هل يمكن أن يقرأ من الكتب الجادة والمفيدة؟، وكم يمكن أن يحضر من المحاضرات والندوات والمناظرات حضوريا أو عن بعد؟، كم يمكن أن يحرص عليه من دورات تكوينية وتدريبات في التنمية الذاتية محليا وطنيا ولما لا دوليا؟، بكم يمكن أن يستمتع من أغاني جميلة ومسرحيات هادفة.. وكم يستطيع مع رفاقه أن يبدع منها بدل انتظارها؟.
التعليقات مغلقة.