المشاهب والركراكي… حين يغنّي الوطن على وتر الذاكرة
رجاء الشرقاوي
أصوات من الرباط
في مساءٍ لا يُنسى، تجلّى الفنُّ في أبهى حلله، واختلطت النغمة بالدمعة، والحنين بالتصفيق، في عرضٍ استثنائي احتضنته جماعة أنفا، بشراكة نبيلة مع وزارة الثقافة، عنوانه الوفاء لذاكرة فنية صاغت وجدان أجيال.
مجموعة المشاهب، كما عوّدت عشاقها، لم تصعد إلى المسرح لتُغنّي فحسب، بل لتستحضر زمناً من الصدق الفني، والمواقف التي لا تُشترى. بصحبة فرقة المايسترو الركراكي، التي ألبست أغاني المشاهب حلة أوركسترالية فاخرة دون أن تُجردها من روحها الشعبية، انطلقت السهرة كنهر دافق، يسقي ذاكرة العطاشى للحقيقة والجمال.
أغانٍ كـ”خليلي .داويني.بغيت بلاد.ي واش هاد الحصلة حمودة”، لم تكن مجرد وصلات موسيقية، بل شهادات حية على عصر، على وجع، على إنسان كان وما زال يحلم، رغم التعب، رغم الجراح. كل مقطع كان بمثابة مرآة عاكسة لضمير شعب، نُقشت كلماته على جدار الوجدان، لا تنمحي.
ولأن من الوفاء أن نكرّم من سكبوا من أرواحهم في سبيل الفنّ، خُصّصت لحظة عرفانٍ مؤثرة لتكريم قامةٍ شاهقة من قامات المشاهب، الفنان حمادي. وقف بين محبيه، لا كأي فنان، بل كأيقونةٍ ناطقة بالتاريخ، شاهدة على مسار لم يكن سهلًا، لكنه كان صادقًا حتى النخاع.
في تلك اللحظة، صمت كل شيء إلا القلوب. كان التكريم أكثر من احتفاء؛ كان رسالة اعتذار ضمنية من زمنٍ كثيرًا ما نسى رموزه، وها هو اليوم يُعيد لهم شيئًا من الدين، وإن متأخرًا.
أما وزارة الثقافة، ومعها جماعة أنفا، فقد رفعتا بهذه المبادرة راية الإشعاع الثقافي الحق، وذكّرتا بأن الاحتفاء بالفن لا يكون فقط على الورق، بل في الفعل، وفي إعادة الاعتبار لتجارب صنعت هوية هذا البلد.
كانت ليلةً من نور. غنّت فيها المشاهب للوطن، لا بجمل موسيقية، بل بصوت الضمير. عزف فيها الركراكي على وتر الحقيقة، ووقف فيها حمادي شاهداً على أن الفن الصادق لا يشيخ، بل يُزهر كلّما ضاقت بنا الحياة.
وهكذا مضت السهرة، تاركة وراءها ما هو أعمق من الطرب: تركت ذاكرة جديدة… بل وعدًا بأن هذا الوطن، مهما نسي، لا يُطفئ نوره من غنوا له بصدق.
التعليقات مغلقة.