الصحافة المغربية على حافة الانهيار فهل تتدخل الدولة لإنقاذ المقاولات الصحفية من الموت الحتمي؟
جريدة أصوات
تواجه الصحافة التقليدية في المغرب، وعلى رأسها الصحافة الورقية، اليوم أزمة وجودية عميقة تنذر بالانهيار. هذه الأزمة ليست مجرد تراجع عابر، بل هي تحول هيكلي جذري فرضته التطورات التكنولوجية المتسارعة والمنافسة الشرسة على انتباه القارئ. يظهر تراجع الانتشار، وانخفاض المبيعات، وغياب التمويل المستدام، عوامل مجتمعة دفعت المقاولات الصحفية إلى المجهول.
أرقام صادمة تكشف حجم الأزمة
تترجم أبعاد هذه الأزمة إلى مؤشرات رقمية تثير القلق:
- تراجع المبيعات: انخفضت مبيعات الصحف المغربية بأكثر من 62% في عام 2020 مقارنة بعام 2019، وهو ما وصفه المجلس الوطني للصحافة بـ”المؤشر المخيف للانهيار”.
- هبوط الاشتراكات: تراجعت نسبة الاشتراكات، التي كانت تمثل 27% من مبيعات الصحف، بـ65%.
- توقف النشر: توقف 58% من الصحف الورقية عن الصدور بحلول أواخر عام 2020.
- انخفاض المبيعات اليومية: انخفض المعدل اليومي للمبيعات من حوالي 400 ألف نسخة إلى أقل من 20 ألف نسخة. في بعض الحالات، وصلت مبيعات صحف معينة إلى أقل من 500 نسخة يوميا في عام 2021.
- القيمة السوقية المتدهورة: تراجعت القيمة المالية لمبيعات الصحف الورقية إلى 90 مليون درهم في 2020، مقارنة بـ240 مليون درهم في 2019.
هذه الأرقام لا تدل على أزمة عابرة، بل على تحول هيكلي عميق يهدد وجود القطاع بأكمله، مما يستدعي حلولا تتجاوز الدعم المالي الطارئ لتشمل إعادة هندسة شاملة لنماذج الأعمال وهياكل المؤسسات.
أسباب الأزمة وتحدياتها الوجودية
الصحافة المغربية تواجه تحديات متعددة ومتشابكة تدفعها نحو المجهول، ويمكن إجمالها في:
1. التحول الرقمي واقتصاد الانتباه
لقد غيرت التكنولوجيا الرقمية مشهد الإعلام بشكل جذري، حيث أصبح الوصول إلى المعلومات سهلا وفوريا عبر الإنترنت، مما قلل من حاجة القراء للصحف الورقية كمصدر رئيسي للأخبار. تفاقمت هذه المشكلة مع ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي التي باتت تقدم للمستخدمين إجابات فورية بدلا من توجيههم إلى مواقع الويب عبر الروابط التقليدية، مما يثير مخاوف عميقة لدى المؤسسات الإعلامية بشأن تراجع حركة المرور من محركات البحث.
المشكلة لا تقتصر على انتقال الإعلانات إلى المنصات الرقمية فحسب، بل هي تحول جوهري في “اقتصاد الانتباه”. فالغالبية العظمى من انتباه الجمهور المغربي قد تحول إلى وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الفيديو. هذا يعني أن المعلنين يتبعون الانتباه حيثما وجد، مما يجعل الصحافة التقليدية أقل جاذبية لهم حتى لو حاولت التحول رقميا دون فهم هذا التحول الأعمق.
2. انهيار نموذج الإعلانات التقليدية
تاريخيا، شكلت الإعلانات شريان الحياة للصحافة التقليدية، لكنها تراجعت بشكل حاد مع توجه الشركات الكبرى نحو المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي. في المغرب، انخفضت مداخيل الإشهار بنسبة قاربت ثلاثة أضعاف. تشير الإحصائيات إلى هيمنة المنصات الرقمية على سوق الإعلانات؛ ففي يناير 2024، وصل مدى إعلانات فيسبوك في المغرب إلى 59.6% من مستخدمي الإنترنت، ويوتيوب 61.5%، وتيك توك 36%. هذا التحول يعكس انتقال انتباه الجمهور، وبالتالي ميزانيات الإعلان، إلى الفضاء الرقمي.
3. ضعف البنى التحتية ونقص الكفاءات الرقمية
تعاني العديد من المؤسسات الصحفية المغربية من ضعف في البنية التحتية الرقمية ونقص في الكفاءات المتخصصة في الإعلام الرقمي وتحليل البيانات. هذا النقص في المهارات الرقمية يعيق قدرة هذه المؤسسات على التكيف مع متطلبات العصر الجديد، حيث يعاني المغرب من عجز في الكوادر المؤهلة في مجال الذكاء الاصطناعي، مع هجرة 42% من المهندسين المغاربة إلى الخارج. يتشابك ضعف البنية التحتية ونقص الكفاءات وغياب نموذج ربحي واضح في حلقة مفرغة، فالافتقار إلى رأس المال يمنع الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتدريب الموارد البشرية.
4. هشاشة النموذج الاقتصادي وقضايا التمويل والأجور
تعاني الصحافة المغربية من غياب نموذج اقتصادي ملائم لخصوصيتها وواقع محيطها، بالإضافة إلى هشاشتها ونقص رأسمالها وضعف حكامة بعضها. اضطرت الحكومة المغربية لدفع أجور المقاولات الصحفية الخاصة منذ أزمة كوفيد-19، بمبلغ تجاوز مليار ونصف مليار درهم خلال أربع سنوات، مما يدل على عدم استدامة هذه المقاولات ذاتيا. هذا الدعم الحكومي للأجور، رغم أنه قد يخفف من الضغط الفوري، إلا أنه لا يكسر هذه الحلقة المفرغة، بل قد يؤجل مواجهة التحديات الهيكلية.
جدلية تدخل الدولة: إنقاذ أم تسييس؟
في ظل هذه الظروف المعقدة، يبرز التساؤل الجوهري: هل يجب على الدولة التدخل لإنقاذ المقاولات الصحفية من هذا المصير المحتوم؟
1. مؤيدو التدخل الحكومي: ركيزة للديمقراطية
يرى مؤيدوا التدخل الحكومي أن الصحافة ليست مجرد صناعة تجارية، بل هي “ركيزة أساسية للديمقراطية، واستقرار المجتمع”. فبدون إعلام قوي ومستقل، لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية أو دولة ذات تأثير في محيطها. تؤكد منظمات حقوقية مثل منظمة العفو الدولية على أن “على الحكومات أن تقدم الدعم لوسائل الإعلام الحرة والمستقلة وأن تحميها، وأن تعمل على تعزيز الشفافية، وإتاحة المعلومات، بدلا من تقييد الحصول عليها”. يعتبر هذا الدعم ضرورة لإعادة التوازن في ظل التحديات البنيوية التي تواجه القطاع.
2. معارضو التدخل الحكومي: مخاوف من التسييس
على النقيض، يثير التدخل الحكومي مخاوف جدية بشأن “تسييس وتوجيه محتوى الإعلام، وما قد يُهدد حيادية واستقلالية الصحافة”. في المغرب، تحول الدعم الحكومي الذي بدأ استثنائيًا بسبب جائحة كوفيد-19 إلى “اعتمادات قارة” في ميزانية قطاع التواصل، مما أثار تساؤلات حول استمراريته وتأثيره.
بينما يرى البعض أن الدعم الحكومي ضروري لإنقاذ الصحافة كركيزة للديمقراطية، فإن التجربة المغربية تكشف عن مخاطر تحويل هذا الدعم إلى “أغلال ذهبية”. فالدعم المالي، خاصة عندما يكون غير شفاف وغير خاضع للمساءلة، يمكن أن يخلق تبعية مالية للمؤسسات الإعلامية، مما يدفعها إلى التماهي مع السياسات الحكومية أو تجنب النقد، وبالتالي يفقدها استقلاليتها وحيادها. هذا التناقض بين الهدف المعلن للدعم (حماية الديمقراطية) ونتائجه المحتملة (تسييس الإعلام) هو جوهر المشكلة.
تتجلى المخاطر في:
- غياب الشفافية: لم تنشر الحكومة الحالية لوائح المقاولات المستفيدة، على عكس العرف السابق.
- اختلال في معايير التوزيع: تضاعف دعم بعض المقاولات 20 مرة بينما لم تتجاوز أخرى 30 ألف درهم.
- المساس بالاستقلالية: لوحظ تحول بعض الجرائد الإلكترونية والورقية إلى “منابر للدفاع عن السياسات الحكومية”. وقد اعتبر رئيس الفيدرالية المغربية لناشري الصحف أن هذا الدعم “مسألة معيبة، وفيها مس باستقلالية الصحافة من الناحية المبدئية”.
نماذج وحلول مقترحة للاستدامة: بناء مستقبل الصحافة
لضمان استدامة الصحافة في العصر الرقمي، يجب على المقاولات الصحفية تبني نماذج أعمال متنوعة تتجاوز الاعتماد الكلي على الإعلانات. تؤكد جميع النماذج الناجحة على أن “الصحافة النوعية” هي المحرك الرئيسي للاستدامة، فالقراء يدفعون فقط مقابل المحتوى الذي يجدونه ذا قيمة حقيقية، مثل المقالات المتعمقة والتحليلية، وليس لمحتوى “النقر” أو الأخبار السطحية التي يمكن الحصول عليها مجانا.
نماذج التمويل الواعدة:
- المحتوى المرعي: حيث تستفيد وسائل الإعلام من سمعتها لإنشاء قصص ذات علامات تجارية موثوقة للترويج لشركات معينة، مع وضع علامة واضحة عليها لتمييزها عن المحتوى التحريري.
- التمويل الجماهيري: تعتمد العديد من المطبوعات على التبرعات، خاصة المنظمات غير الربحية المتخصصة في الصحافة الاستقصائية، عبر منصات مثل “كيك ستارتر” أو برامج عضوية (مثال: “الغارديان”، “دي كوريس بوندنت” الهولندية).
- الاشتراكات: على الرغم من الجدل حول المحتوى الإخباري المجاني، أظهرت صحف مثل “ذا إنفورميشن” و”نيويورك تايمز” أن نموذج الاشتراكات يمكن أن يكون مستدامًا. وتعد تجربة “ميديا بارت” الفرنسية مثالاً ساطعاً، حيث تأتي 98% من إيراداتها السنوية من الاشتراكات دون أي إعلانات أو إعانات حكومية.
- الصحافة المباشرة: استخدام منصات مثل فيسبوك لايف لتقديم القصص مباشرة للجمهور بطرق تفاعلية، مع إيرادات تأتي من مبيعات التذاكر والرعاية.
- تمويل الجهات المانحة: يشمل الدعم الخيري، وتمويل الحكومات (مع ضوابط)، والمسؤولية الاجتماعية للشركات. (مثال: “أماهبونجان” في جنوب أفريقيا، ودعم بيير أوميديار للصحافة الاستقصائية).
- الدفعات الصغيرة: حيث يدفع القراء مبالغ صغيرة للوصول إلى مقال واحد، كما هو الحال في منصة “بليندلي” الهولندية.
أمثلة دولية لدعم الصحافة المستقلة:
- ألمانيا: تقدم مبادرة “هانا-آرينت” المدعومة من وزارة الخارجية المساعدة والحماية للصحفيين المهددين، وتعمل بمبدأ “حيادية الدولة” حيث تتخذ قرارات الدعم فرق تحكيم مستقلة دون تدخل حكومي.
- كندا: يقدم “صندوق المطبوعات الكندي” مساعدة مالية للمجلات المطبوعة والصحف المجتمعية والدوريات الرقمية بناء على معايير موضوعية، ويدعم الابتكار التجاري والمبادرات الجماعية لتعزيز استدامة الصناعة.
- السويد والنرويج وفرنسا: تقدم دعما حكوميا مباشرا وغير مباشر للصحافة، بما في ذلك الإعفاءات الضريبية أو الدعم المشروط بعدد المشتركين، مع التأكيد على التنظيم الذاتي للصحافة.
هذه الأمثلة تظهر أن الدعم الحكومي يمكن أن يكون فعالا دون المساس بالاستقلالية إذا تم تطبيقه ضمن إطار حوكمة قوية، مع معايير واضحة، ولجان مستقلة، وآليات مساءلة صارمة. هذا يعني أن المشكلة ليست في الدعم بحد ذاته، بل في كيفية إدارته.
مقترحات لتعزيز الشفافية والمحاسبة في الدعم
لضمان استقلالية الصحافة وكرامة الصحفيين، يجب اعتماد مبادئ الشفافية والمحاسبة والنجاعة في أي دعم حكومي. يتطلب ذلك:
- نشر تفاصيل الدعم العمومي: أن تعلن وزارة الشباب والثقافة والتواصل بشفافية عن المبالغ المالية للدعم حسب كل منبر إعلامي، ولائحة الجرائد المستفيدة من الإعلانات الإدارية، وعدد الصحفيين المعتمدين.
- التدقيق المالي والمحاسبي: أن يقوم المجلس الأعلى للحسابات بالتدقيق المالي والمحاسبي لمعرفة أوجه صرف الدعم.
- نشر قائمة الصحفيين المعتمدين: أن يعلن المجلس الوطني للصحافة عن قائمة بأسماء الصحفيين الحاصلين على بطاقة الصحافة والمؤسسات المشغلة لهم.
- نشر لوائح المطبوعات والمتابعات القضائية: أن تقوم رئاسة النيابة العامة بنشر لائحة الجرائد الإلكترونية والمطبوعات الورقية المصرح بإنشائها والمتابعات القضائية المتعلقة بالصحفيين.
- مساءلة برلمانية: أن يساءل أعضاء البرلمان هذا القطاع حول الدعم وآليات توزيعه.
- شفافية الإعلانات الحكومية: ضمان تخصيص وتوزيع الإعلانات الحكومية بشكل مستقل وشفاف، بناء على معايير موضوعية، مع إمكانية إنشاء مجالس رقابة ولوائح صارمة.
نحو صحافة مغربية مستقلة ومستدامة
تؤكد المعطيات أن الصحافة المغربية تواجه أزمة وجودية حقيقية تتطلب “إعادة ابتكار” شاملة لا مجرد “إنقاذ”. الدعم الحكومي، إن وجد، يجب أن يكون محفزًا لهذا الابتكار والتحول، وليس مجرد دعم للوضع الراهن. هذا يعني أن الصحافة يجب أن تتجاوز دورها التقليدي كـ”ناقل للأخبار” لتصبح “منتجا للقيمة” التي لا يمكن استبدالها بسهولة. يجب أن تركز على التحليل العميق، الصحافة الاستقصائية، السرد القصصي المبتكر، وبناء مجتمعات حول محتواها، مما يضمن بقاءها ككيان حيوي حتى في ظل التغيرات التكنولوجية المتسارعة.
إن إنقاذ مستقبل الصحافة مسؤولية جماعية تتطلب تضافر جهود الحكومة، والمؤسسات الصحفية، والمجتمع المدني، والجمهور. فعندما تجتمع أخلاقيات الصحافة التقليدية مع الاستخدام الذكي للتكنولوجيات الجديدة، يمكن للصحافة أن تستمر في لعب دور حيوي في المجتمع، وتقديم تقارير إخبارية ذات مصداقية وجودة في التحليل والتقديم. هذا النقاش، رغم تأخره، يعد في غاية الأهمية لضمان صحافة حرة ومستقلة تخدم المصلحة العامة.
فهل تعتقد أن الالتزام بهذه المقترحات يمكن أن يحدث تحولا جذريا وينقذ الصحافة المغربية من مصيرها المحتوم؟
التعليقات مغلقة.