تعتبر رواية مِئة عام مِن العُزلة، (1967)، للروائي الكولومبي، “غابرييل غارسيا ماركيز” (1927-2014/نوبل 1982). أحد أهَمِّ الأعمالِ الأدبية العالمية على الإطلاق. حيث تجمع بين الواقعية السحرية والخيال الحي ضمن إطار أدبي حالم. وتعيد تفسير التاريخ “الكولومبي” عبر سرد حياة عائلة “بوينديا” في مَدينة خيالية تُدْعَى “ماكوندو”. اعتمادا على أُسلوب الواقعية السِّحْرية، مازجا الواقعُ بالخَيالِ ضِمْنَ إطارٍ أدبيٍّ حَالِمٍ.
تحاول الرواية إعادةَ تَفْسيرٍ التاريخِ “الكُولومبي”من خلال طْرَح أفكار جديدةً في كَيفيةِ تأويلِ الأحداثِ اليومية وَالوَقائعِ الحياتية. مع رَبْطِ البُنى المَعِيشية الخُرافية بِالدَّهْشَةِ العَقليةِ والانبهارِ الوِجْدَانيِّ. وَالهُروبِ مِنْ ضَغْطِ الواقعِ الماديِّ إلى صِناعةِ عَالَمٍ غَرائبيٍّ قادر على إثارةِ الأسئلةِ المصيرية. وبالتالي تَكوينِ التَّأمُّلاتِ العميقة.
وهَكذا يَتِمُّ تَشييدُ فَلسفةِ الحِكاياتِ عَلى الذُّهُولِ وخَلْطِ السِّحْرِ بالواقعِ. مع الانتقالِ مِنْ حُلْمٍ إلى حُلْمٍ في فَضَاءَاتٍ لُغَوِيَّة. والقَلَقِ مِنْ خَسَارَةِ الحُلْمِ في ظِلِّ التَّغَيُّرَاتِ المُتَسَارِعَةِ في الزَّمَانِ الافتراضيِّ والمَكَانِ الخَيَالِيِّ. وهو ما يُؤَدِّي لنَقْلِ الأحكامِ العقليةِ والأفعالِ الاجتماعيةِ مِنْ رَتَابَةِ الحَياةِ اليومية إلى الحَقيقةِ الكَامنةِ في التَّأمُّلِ الرُّوحِيِّ. وأيضا التَّفسيرِ المَادِيِّ والتَّجْرِبَةِ الإنسانية.
إنَّ القَضايا المُخْتَلِطَةَ في التاريخِ، وَالمَسَائِلَ المُتَشَابِكَةَ في الحَضَارَةِ. تُشكِّل سُلطةً ذات طبيعة تَرَاتُبِيَّة عَلى الصَّعِيدَيْن: العائليِّ والمُجْتَمَعِيِّ. وتُمثِّل هُوِيَّةً ذات طبيعة مَركزية عَلى المُسْتَوَيَيْن: المَعنويِّ والماديِّ.
وهَذه الأمُورُ مُجْتَمِعَةً تَتَجَسَّدُ في عائلة “بوينديا”. في كُلِّ أجيالِها وتَفاصيلِ حَيَاتِهَا وَتَحَوُّلاتِ أفكارِها ومَسَارَاتِ أحلامِها. وهَذه العَائِلَةُ الخَيَالِيَّةُ المُتَصَوَّرَةُ ذِهْنِيًّا وأدَبِيًّا صَنَعَتْ أُسْطُورَتَهَا الخَاصَّة في اللغةِ المُدْهِشَةِ السَّاحِرَةِ والأُسْلُوبِ المُحْكَمِ الجَذَّابِ. واللغةُ كَمَادَّةٍ خَام والأُسْلُوبُ كَتَيَّارٍ حَامِلٍ للحِكَايَاتِ المُتَشَعِّبَةِ. كِلاهُمَا يَقُومُ عَلى دِقَّةِ الوَصْفِ وَالبَرَاعَةِ في اقْتِنَاصِ اللحظةِ الإبداعية.
وتستند المَلحمةُ السَّرديةُ التي قَدَّمَهَا “ماركيز” إلى إضفاءِ السِّحْرِ عَلى عناصر الواقع، بشكلٍ مُستمِر ودائم. وُصُولًا إلى مَنظومةٍ أدبية خُرافية تَبتكِر الخَيَالَ وتَجْعَلُهُ حَيَاةً مُعَاشَةً. وهو ما يُؤَدِّي لصِناعةِ عَالَمٍ أُسْطُورِيٍّ يُنتج الأوهامَ ويُصَدِّقُهَا. وَيَدْفَع بالتالي القارئَ إلى التعاملِ مَعَهَا بِوَصْفِهَا حَقَائق تَجَسَّدَتْ يَوْمًا مَا عَلى أرضِ الواقعِ.
وهَكذا تُصبح الأخْيِلَةُ حَيَوَاتٍ مَحسوسةً. وتُصبح الأساطيرُ وَقَائع مَلْمُوسة. كُلُّ هَذا مِنْ أجْلِ تَفكيكِ هَياكلِ الطبيعة البشرية. وبالتالي إرجاعِها إلى الجُذورِ الفَلْسفيةِ الأوَّلِيَّة والأنْوِيَةِ التاريخية البِدائية والمَاضِي الذي لا يَمْضِي. وَأيضا الأحلامِ المَقموعةِ والذكرياتِ المَنْسِيَّة وَالرَّغَبَاتِ المَكبوتة.
وكَمَا أنَّ طبيعةَ الأحكامِ تُحدِّد مَاهِيَّةَ الأفعال، فإن تَرتيب الفَوْضَى في العَمَلِ الأدبيِّ يُحدِّد الأدوارَ الاجتماعية ويُعِيد تَعْرِيفَها إبداعيًّا. وذلك مِنْ أجْلِ كَسْرِ العُزلةِ المَفروضة عَلى مَشاعرِ الألَمِ والتَّمَرُّدِ عَلى الواقعِ.
وبمَا أنَّ الإنسانَ لا يَختار أبَوَيْه، كذلك لا يَختار الزَّمَانَ والمَكَانَ اللَّذَيْن يَعِيش فيهما. وهذا يَعْكِسُ أهميةَ الانقلابِ عَلى الواقعِ وصِناعةِ واقعٍ جَديد. وذلك عَن طَريقِ تَفْعِيلِ الأحلامِ وتَجذيرِ الخَيَالِ، وَبَعْثِ السِّحْرِ في الكَلِمَاتِ وَالأحداثِ والمَوَاقِفِ. وهذه هِيَ فَلسفةَ الواقعية السِّحْرية التي انْتَشَرَتْ في أدبِ أمريكا اللاتينية خِلال السِّتينيات والسَّبعينيات مِنَ القَرْن العِشْرين. وَشَكَّلَت هاته الحركةُ حَدَثًا أدبيًّا هامًّا. وَنَقْلَةً نَوْعِيَّة جَديدة في عَالَمِ الإبداعِ الأدبيِّ. وَقَدْ قَادَهَا كُتَّابٌ حَطَّمُوا القواعدَ التقليدية للكِتابةِ .حيث امتازوا بالجُرأةِ والزَّخرفةِ والتَّنميقِ وإطلاقِ العِنَانِ لِحُرِّيةِ الخَيَالِ. مع المَيْلِ إلى كُلِّ مَا هُوَ تَجْريبي وذُو طَابَع سِيَاسِي. من أمثال: “غابرييل غارسيا ماركيز” مِنْ “كُولومبيا” و”ماريو فارغاس يوسا” مِنَ “بيرو”. إضافة ل”خوليو كورتاثر” مِنَ الأرجنتين و”كارلوس فوينتس” مِنَ “المَكسيك”.
وَمِثْلَمَا اخْتَرَعَ الروائيُّ الأمريكيُّ “ويليام فوكنر”، (1897-1962/نوبل 1949) مدينة “جيفرسون” الخَيَالِيَّة للحَديثِ عَنْ مَسْقَطِ رَأسِه في الجُنوبِ الأمريكيِّ. وَوَصَفَ مِنْ خِلالِهَا تَوَالي الأجيالِ التي شَهِدَتْهَا. اخترعَ “ماركيز” مَدينةَ “ماكوندو” الخَيَالِيَّة، لِتَكُونَ شَبيهةً بِمَدينة “أراكاتاكا”، التي وُلِدَ فِيها في شَمالِ “كولومبيا”. لِيَجْعَلَ مِنها صُورةً لِ”كُولومبيا”، بَلْ وَحَتَّى لِدُوَلِ قَارَّة أمريكا اللاتينية.
وهذا يَقُودُ إلى مَوضوع مُهِم، ألا وَهُوَ تأثير “فوكنر” في “ماركيز”. وهو ما صَرَّحَ بِهِ “ماركيز” عَلَنًا في خِطاب قَبوله لجائزة نوبل للآداب (1982) قَائِلًا: “أُسْتَاذي ويليام فوكنر”. كما مَثَّلَتْ بعضُ المُفْرَدَاتِ والمواضيع في أعمال “فوكنر”، مِثْلَ الغُمُوضِ والبَحْرِ وَثَقَافَةِ “الكاريبي” والعُزْلةِ. قِيَمًا أسَاسِيَّة في روايات “ماركيز”.
وَقَدْ قال “ماركيز” في حديث صَحَافِيٍّ: “إنَّ مُشْكلتي لَمْ تَكُنْ في كَيفيةِ تَقْلِيدِ فوكنر، لكنْ في كَيفيةِ تَدْميره. كانَ تأثيرُه يَشُلُّ حَرَكَتي”. مضيفا وفي حَديثٍ آخَر: “إذا كانتْ رِوَاياتي جَيِّدة، فذلكَ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ، هُوَ أنَّني حاولتُ أنْ أتجاوزَ فوكنر في كِتابةِ مَا هُوَ مُستحيل. وَتَقْدِيم عوالم وانفعالات، يَستحيل أنْ تُقَدِّمَهَا الكِتابةُ والكَلِمَات مِثْل فوكنر. ولكنْ لَمْ أستطعْ أنْ أتجاوزَ فوكنر أبدًا، إلا أنَّني اقتربتُ مِنْه”.
التعليقات مغلقة.