أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

السامري الثقافي: كيف يخدعنا العجل الذهبي في مؤسساتنا الثقافية؟

عماد فجاج

في قصة السامري القرآنية نجد نموذجا خالدا للإنسان الذي يستغل الفرص على حساب المبادئ، والذي يصنع من الوهم والباطل قناعا للحقيقة. السامري لم يكن صاحب علم أو رسالة، ولكنه كان بارعا في التلاعب بالعواطف واستغلال اللحظة. صنع عجلًا من الذهب

وجعل الناس يتبعونه في غياب القيادة. ورغم اختلاف الزمن والمكان، يبدو أن هذا النمط لا يزال يتكرر، وإن اختلفت أشكاله وأدواته.

اليوم في المؤسسات الثقافية والفنية نجد سامريين معاصرين يتربعون على مناصب حساسة لسنوات طويلة رغم افتقارهم للخبرة أو الكفاءة. شخص قد لا يفقه شيئا في المسرح، لم يخطُ يوما على خشبته ولم يقرأ نصا مسرحيا، يُسند إليه قيادة مصلحة ثقافية مسرحية لعقد ونصف. ليس فقط أنه لا يضيف شيئا إلى هذا المجال، بل يصبح أداة لعرقلة المواهب، يُرهب الجميع بقوته النقابية ويوجههم حسب أهوائه. كيف يحدث هذا؟ وكيف يستمر؟

الملك والكفاءات: صوت يبحث عن صدى

في أكثر من مناسبة شدد جلالة الملك محمد السادس على أهمية الكفاءات. كان دائما يؤكد أن الكفاءات هي مفتاح مستقبل المغرب، وأنها قادرة على تحقيق التنمية الشاملة التي نحلم بها. في خطاباته يظهر إدراكه العميق بأن الإبداع والابتكار لا يمكن أن يزدهرا إلا إذا

أُعطيت الفرصة لأصحاب الخبرة والرؤية.

ولكن حين ننظر إلى الواقع نجد العكس تماما. الكفاءات تُهمش، والمواقع القيادية تُمنح لمن لا يستحقها، ليس بناء على معايير الكفاءة، بل على الولاءات الشخصية واستغلال النفوذ. كيف يمكن تفسير هذا التناقض بين خطاب الإصلاح وأرض الواقع؟

 

الوزير الشاب: نموذج للقيادة الملهمة

رغم التحديات الكبرى التي تواجه قطاع الثقافة في بلادنا، يبرز وزير الشباب والثقافة والتواصل الشاب كشخصية تسعى بجدية إلى تغيير النهج التقليدي وإعادة هيكلة المؤسسات الثقافية. ليس الأمر مجرد وعود وشعارات، بل خطوات عملية تظهر رؤية تهدف إلى

تأسيس قطاع يعتمد على الكفاءة والشفافية. الوزير يشتغل بروح الفريق، ملتزما بإشراك جميع الفاعلين في القطاع والعمل على تمكين الشباب من الوصول إلى الفرص.

إن الإنجازات التي بدأت تظهر تعكس جدية هذه الجهود، ولكن الأهم هو الاستمرارية ومواجهة التحديات البنيوية التي طالما أعاقت تطور القطاع. في ظل توجيهات جلالة الملك محمد السادس، الذي يضع الكفاءة في صلب خطاباته، نأمل أن يكون عمل الوزير الشاب

فرصة لإحداث نقلة نوعية تلبي طموحات الأجيال القادمة.

 

مدير الفنون الجديد: الأمل في الإصلاح

تعيين مدير جديد للفنون يشكل إشارة إيجابية نحو مرحلة جديدة من الإصلاح الثقافي. بخبرته وتجربته في إدارة مشاريع ناجحة، يبدو أن لديه الإمكانيات لوضع رؤية تُعيد الحياة إلى المؤسسات الثقافية. المطلوب الآن هو تنفيذ خطط واضحة لدعم الإبداع، تحسين البنية التحتية، وتشجيع الشباب على الانخراط في المشهد الفني.

إن التحدي الأكبر أمامه ليس فقط تطبيق هذه الرؤية، ولكن أيضا مواجهة التراكمات السابقة، وإعادة الثقة في المؤسسات الثقافية. إذا التزم المدير الجديد بنهج يعتمد على الكفاءة، واستفاد من التجارب السابقة، فإننا قد نكون أمام فرصة حقيقية لتحويل المؤسسات إلى حاضنة للإبداع، مما ينسجم مع تطلعات جلالة الملك نحو مغرب أكثر إشراقا.

 

السامري الثقافي: عوائق الإبداع

لكن على الجانب الآخر، لا تزال بعض المؤسسات تعاني من وجود”سامريين”  يسعون لتكريس مصالحهم الشخصية على حساب الإبداع. هذا النوع من القيادات أشبه بالسامري الذي صنع عجله الذهبي ليخدع الناس. استغلال المناصب ليس فقط إضاعة للفرص، ولكنه أيضا إقصاء للكفاءات الحقيقية التي يمكن أن تصنع الفارق. المسرح، باعتباره مرآة لمجتمع وروحه، يحتاج إلى من يتنفس الفن ويعيش الإبداع، لا إلى شخصيات تسعى لتكريس سلطتها وتوجيه كل شيء وفق مصالحها.

المشكلة لا تتوقف هنا. وجود مثل هؤلاء الأشخاص لا يؤثر فقط على جودة الإنتاج الثقافي، بل يُثقل كاهل المبدعين ويضعهم في بيئة تعيق طموحاتهم. يُغلقون الأبواب أمام الشباب الموهوبين، ويحولون المؤسسات إلى مساحات جامدة خالية من الروح. كيف يمكن أن تنمو الثقافة في ظل بيئة تُدار بمنطق التسلط والاستغلال.

الهجرة القسرية للكفاءات

الكفاءات المغربية لا تُهاجر فقط بسبب ظروف اقتصادية، بل أيضا نتيجة إحباطها من الوضع الداخلي. حين يجد الشاب أو المبدع أن الفرص تُمنح لغير المؤهلين، وأن جهوده تُقابل بالتهميش أو التجاهل، يصبح الهروب هو الخيار الوحيد. كيف يمكن للمغرب أن ينهض إذا كانت كفاءاته تُقصى قسرا؟

إننا أمام معضلة تهدد مستقبلنا الثقافي والاجتماعي. المؤسسات التي يفترض أن تكون حاضنة للإبداع أصبحت عائقا أمامه. وهذه ليست مشكلة أفراد فقط، بل هي ظاهرة تتطلب وقفة جماعية.

 

الحل: العودة إلى الكفاءات

لا يمكننا التغلب على هذه المعضلة إلا إذا عدنا إلى جوهر دعوة جلالة الملك: الكفاءات أولا. يجب أن نضع الإنسان المناسب في المكان المناسب. أن تُسنَد المناصب بناء على الخبرة والتجربة، لا على الولاءات والنفوذ. يجب أن نعيد النظر في طريقة اختيار القادة الثقافيين، وأن تكون هناك رقابة حقيقية على أدائهم.

القضاء على ظاهرة “السامري الثقافي” يبدأ بإصلاح جذري وشامل. يجب أن تكون هناك لجان مستقلة لتقييم الأداء، وأن تُفتح الأبواب أمام الشباب والكفاءات لإثبات قدراتهم. علينا أن نخلق بيئة تنافسية حقيقية، حيث لا مكان إلا للأفضل والأجدر.

ختاما: متى ننهي دور السامري؟

في قصة السامري عاد النبي موسى ليضع الأمور في نصابها. ولكن في واقعنا، متى سنجد من يعيد الأمور إلى نصابها؟ متى سنقول كفى للفساد والتسلط؟ متى سنرفع أصواتنا ضد عجول الذهب التي تُعبد في مؤسساتنا، ونُعيد الأمل للكفاءات التي تنتظر فرصة للإبداع والعطاء؟

الإجابة على هذه الأسئلة هي مسؤوليتنا جميعا. إذا أردنا حقا بناء مغرب المستقبل، فعلينا أن نواجه هذه الظواهر بشجاعة ونمنح الكفاءات المكانة التي تستحقها. الكفاءات ليست خيارا، بل ضرورة.

التعليقات مغلقة.