أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

أزمة الديمقراطية، النخب التقليدية، والخطاب الشعبوي: ما العمل؟

لحسن حداد

أسباب نمو الخطاب الشعبوي متعددة، نذكر منها التحول الذي عرفته الصناعة وقطاعات أخرى حيث أخذت الربوتات مكان اليد العاملة في الكثير من الدول وهو ما استغله الساسة الشعبويون ، للدفع بأن البطالة سببها هم المهاجرون وإعادة توطين المقاولات خارج البلاد. أضف إلى هذا أن العديد رأى في العولمة فقط هجرة المقاولات إلى حيث اليد العاملة غير مكلفة والتشجيعات الحكومية مرتفعة؛،لم يتكلم مناهضو العولمة أمثال دونالد ترامب واليمين المتطرف في أمريكا عن فوائد العولمة للدول الصناعية نفسها والتي ارتفعت صادراتها وارتفعت عائدات حركة الرساميل والتمويلات وعائدات البراءات وكذا حركة ما يسميها معهد ماكينزي “التدفقات الكونية”، والكل بشكل فائق وغير مسبوق.

أزمات اللاجئين الوافدين من سوريا واليمن والكونغو وإفريقيا الوسطى وأفغانستان والباكستان وماينمار وغيرها وكذا موجات المهاجرين الذين يركبون البحر من شمال إفريقيا والمهاجرين المكسيكيين واللاتينيين الآتين عبر الحدود المكسيكية مع الولايات المتحددة وغيرهم، كل هؤلاء خلقوا وضعا جديدا طرح تحديات سياسية كبيرة على دول الاستقبال وأعطى وقودا جديدا للخطاب الشعبوي في أوربا وفي أمريكا. إغلاق الحدود، والمسؤولية الجماعية تجاه اللاجئين، وسيادة الدول الأوربية في علاقتها مع سياسة الاتحاد الأوربي المتعاطفة مع قضايا اللجوء والهجرة أصحبت تيمات انتخابية يخرج منها الشعبويون منتصرين أو قاب قوسين من ذلك كما حصل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وهنغاريا ومؤخرا في إيطاليا والسويد…

يجد الخطاب الشعبوي الجديد جدورا له في عودة المحافظين إلى الحكم في عهد تاتشر وريغن وفي الردة العنيفة تجاه موجة التعدد الثقافي التي عرفتها الجامعات آنذاك. في السبعينات والثمانينيات من القرن الماضي، عرفت الجامعات الأنكلوساكسونية (خصوصا الجامعات الأمريكية) ثورة ثقافية تمثلت في تبني نظريات المابعد البنيوية والتفكيك وما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية والتعدد الثقافي، وهي ثورة قادتها كليات العلوم الانسانية والاجتماعية وانتشرت كالنار في الهشيم على مستوى جل الشعب من قانون وعلوم حقة وفنون وتدبير وإدارة وغيرها، بل تعدتها لتشمل سلوك الطلبة والأساتذة الذين أصبحوا يفككون وينتقدون الخطاب السائد والثقافة البيضاء ذات الأصول المسيحية اليهودية السائدة في المجتمع ومؤسساته، عبر أساليب حياتهم وكتاباتهم وأطروحاتهم.

أتى الرد عنيفا تبناه مثقفون يمينيون أمثال ليز تشايني (زوجة ديك تشايني الذي سيصبح نائب رئيس بوش الابن بعدما كان وزير دفاع بوش الأب) وألان بلوم وروجر كيمبل ودينيس دي شوزا وغيرهم من الذين أصدروا كتبا ومقالات ينتقدون فيها الجامعات ويتهمونها بالإرهاب الفكري، وتبني الفكر اليساري المتطرف، وتوطين خطابات فلسفية عدمية استوردت من فرنسا عبر كتابات فوكو ودريدا وكريستيفا وألثوسير ولاكان وبورديو وليوتار وبودريار وبارث وغيرهم. هذا ما سماه نقاد اليمين ب”اللياقة السياسية”، أي وجوب القيام بأقوال وأفعال وسلوكات خطابية وحياتية مطلوبة وغير ناقدة للواقع الأمريكي المتعدد ثقافيا ودينيا وتاريخيا.

هذا المتخيل الذي بناه نقاد اليمين بعناية صار نبراس ماسمي بالحروب الثقافية التي عرفتها الجامعات والمجتمع الأمريكي خلال الثلاثة عقود الأخيرة. حين يصدر مرشح مثل دونالد ترامب عبارات عنصرية أو أبيسية بأريحية كبيرة فإنه يعرف أن جزءا من المجتمع الأمريكي صار متشبعا بضرورة تفكيك “اللياقة السياسية” التي اعتمدها اليسار الجامعي منذ السبعينات. لم تأت الشعبوية من فراغ بل من عقود من النقد اليميني للكياسة الإيديولوحية المفترضة لليسار والتي كادت، حسب النقاد اليمينيين دائما، بأن تجهز على أسس الثقافة “الواسبية”، أي الثقافة الانجلوساكسونية البروتستانتية البيضاء، التي تشكل، حسب رأيهم، كنه القومية الأمريكية التي تأسست منذ الرعيل الأول للمهاجرين الانجليز إلى سواحل الشرق الأمريكي في بدايات القرن السابع عشر.

هكذا يمكن اعتبار “الشعبوية الجديدة” مرحلة نضج سياسي للهجوم اليميني على “اللياقة السياسية” في أمريكا الشمالية ومحاولة لإعادة إحياء اليسار في زمن العولمة في أمريكا الجنوبية وجنوب أوربا. لم تعد المعركة في الولايات المتحدة إيديولوجية كما كان الحال من قبل ولكنها صارت سياسية (حيث وجوب السيطرة على الكونغريس والبيت الأبيض)، واقتصادية (ضد مسلسل العولمة) وقانونية (وجوب وضع قضاة في المحاكم الفديرالية والعليا). وما وقع في أمريكا هو صورة ليست مختلفة اختلافا كبيرا عما يجري في دول أخرى وهي مثال صارخ لما وقع ويقع وسيقع في دول أوربية وأمريكية وآسيوية. إنها انتصار للفكر الشعبوي في زمن الثورة الصناعية.

للنخبة التقليدية كذلك جزء من المسؤولية في هذا المسار. فاليسار المعتدل في فرنسا والمملكة المتحدة وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة والدول الاسكندنافية فقد بوصلته الإيديولوجية منذ عقدين من الزمن وبقي تائها بين الطريق الثالث التي نادى به كلينتون وبلير من جهة وبين الدعوات للرجوع إلى المقاربة التي تحبذ التأميم و رأسمالية الدولة والتدخل القوي للحكومات من جهة أخرى، وصار حبيس عقم فكري وإيديولوجي بعيد عن هموم الشباب والطبقات الوسطى ومجتمعات تئن تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والتحولات المناخية والتحول الآلي الآتي مع الثورة الصناعية الرابعة والصعود المزمجر لدول الجنوب.

بدا اليمين المعتدل بدوره متدبدبا بين جاذبية الخطاب الشوفيني القومجي الذي يقول به اليمين المتطرف والانتصار لأفكار العولمة واقتصاد السوق و إيديولوجية “التقطير من فوق” التي أسس لها ريغان في الثمانينات من جهة أخرى. النتيجة كانت هي تقهقر الجمهوريين المعتدلين في الولايات المتحدة لصالح “حزب الشاي” واليمين المتطرف، وشبه أفول اليمين الجمهوري أمام صعود نجم الجبهة الوطنية في فرنسا، وانتصار اليوكيب في معركة البريكسيت على المحافظين المعتدلين في المملكة المتحدة، وصعود أوربان للحكم في هنغاريا على حساب اليمين التقليدي المناصر لأوربا، والنصر المدوي لأحزاب الليغا الجهوية بإيطاليا على حساب اليمين التقليدي المسيحي الذي كان بيرلوسكوني قد أجهز عليه عبر “فورزا إيطاليا” وخطابها الشبه الشعبوي وغيرها…

لا أحد يعرف عواقب هذه الانتصارات المستمرة للحركات والنزعات الشعبوية عبر العالم. ربما الضحية الأولى هي العولمة وحركة الهجرة. ولكن ما هو أخطر هو تصاعد موجة الكراهية تجاه المهاجرين واللاجئين والتطبيع مع الخطاب العنصري المعادي للعرب والمسلمين واليهود والملونين واللاتينيين والآسيويين. بل إن أجندات سياسية رابحة في الغرب بنيت على أساس محاربة الهجرة والتنوع الثقافي والديني وضرورة تحصين الهوية والوطن المفترضين.

غير أن الخاسر الكبير في العملية برمتها هو الديمقراطية. صارت الشعوب في الكثير من الدول (حتى الغربية الديمقراطية) لا ترفض تماما فكرة القائد القوي أو الحكم عن طريق الخبراء (التقنوقراط) أو العسكر. في الربع الأول من 2017 قام مركز بيو للأبحاث باستطلاع ل 41953 شخص من 38 دولة من كل أنحاء العالم حول مدى التزامهم بالديمقراطية وكانت النتائج غير مفاجئة. فرغم استمرار دعم التوجه الديمقراطي “فإن الحكم التنفيذي ذي السلطة الواسعة له مناصروه كذلك. في عشرين دولة، يعتبر ربع المستجوبين أن الأنظمة التي يوجد بها قائد قوي يتخذ قرارات دون تدخل من البرلمان أو المحاكم هو شكل جيد من أشكال الحكم.” كثير من هؤلاء ينتمون إلى دول “قوى فيها الحاكمون مؤخرا من سلطاتهم مثل الفليبين وروسيا وتركيا” (ريتشارد وايك، كايتي سيمونز، بروس ستوكس، و جانيل فيترولف، “دعم واسع للديمقراطية التمثيلية والديمقراطية المباشرة، ولكن البعض يساند بدائل غير ديمقراطية” www.pewglobal.org). هناك أقليات في بعض الدول مثل أندونيسيا والفيتنام والهند وإفريقيا الجنوبية تؤيد، حسب الاستطلاع، حكم العسكر (“رغم أنه يبقى النظام الأقل شعبية صمن الأنظمة التي شملها الاستطلاع”).

ومن أجل قياس “الدعم الشعبي للديمقراطية التمثيلية على حساب البدائل اللاديمقراطية” وضع مركز بيو مؤشرا “للالتزام بالديمقراطية التمثيلية”. هكذا تم تصنيف المستجوبين ك “ديمقراطيين ملتزمين” إذا هم “يدعمون نظاما يمارس بموجبه ممثلون للشعب الحكم وفي نفس الوقت لا يدعمون حكم التقنوقراط، أو الحاكم القوي أو العسكر”؛ أما المستجوبون الذين يقولون بوجوب وجود الديمقراطية التمثيلية ولكنهم يساندون كذلك واحدا من البدائل اللاديمقراطية فتم تصنيفهم على أنهم “ديمقراطيون أقل التزاما بالديمقراطية”؛ ومن يساندون البدائل اللأديمقراطية على حساب الديمقراطية التمثيلية تم تصنيفهم على أنهم “لا ديمقراطيون.”

النتائج كانت صادمة شيئا ما. “حوالي الربع (متوسط 23 %) ممن شملهم الاستطلاع في 38 دولة هم ‘ديمقراطيون ملتزمون’؛ 47 %، أي ضعف نسبة الشريحة الأولى، هم ‘ديمقراطيون أقل التزاما بالديمقراطية’، و 13 % هم “لاديمقراطيون”. و 8 % ليس لهم رأي في الموضوع”. هذا مع العلم أن مساندة الديمقراطية تبلغ متوسط 37 ٪‏ في أوربا و40 % في الولايات المتحدة و44 ٪‏ في كندا، حسب مركز بيو للأبحاث. في السويد، يبلغ دعم الديمقراطية 57 % بينما لا يصل في روسيا أكثر من 7 %. أما في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فالمعدل هو 27 % (إسرائيل 36 % والأردن 33 %).

كل هذا يعني أن هناك استمرار دعم نسبي للديمقراطية عبر العالم ولكن المشاكل والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وتنامي خطاب التشكيك في المؤسسات وغلو الخطاب الشعبوي أسس لنزعات لا ديمقراطية ناشئة تتمثل في تمجيد القائد المستبد والقوي أو حتى الانجذاب إلى أنماط الحكم الدكتاتوري والعسكري لدى أقلية قليلة من الناس.

لا ننسى أن هتلر أتى إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع لكنه استغل هشاشة مؤسسات جمهورية الفايمار والأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة وإحساس الإلمان بالإذلال على يد الفرنسيين إبان تطبيق معاهدة فرساي في العشرينات من القرن الماضي، ليعد ألمانيا ب”مكان لائق تحت الشمس” وبعدها يجهز على الديمقراطية الألمانية الهشة ويؤسس لحكم “الرايخ” الدموي والعنصري والإجرامي والذي جر ويلات على أوربا والعالم لعقود من الزمن.

ربما أكبر تحد ستواجهه الإنسانية في المستقبل القريب، بالإضافة إلى تحدي التغيرات المناخية، هو تنامي المد الشعبوي وتقهقر الديمقراطية وإعادة إنتاج القوميات. ولمواجهة هذا يجب تكوين حلف عريض وقوي لدعم الديمقراطية؛ ودعم الديمقراطية لا يأتي عن طريق الشعارات ولكن عن طريق جعلها في خدمة قضايا الناخبين وانتظاراتهم، وعن طريق تجديد دائم للنخب، والبحث الدائم عن الحلول، وضمان مشاركة مباشرة للمواطنين في تدبير شؤونهم المحلية، وضمان حرية الرأي والصحافة والنقاش الحر والنقد البناء وتقوية عود المجتمع المدني ومؤسسات الرقابة والفحص والمراقبة، في إطار مجتمعات متعددة وواعية بحقوقها وواجباتها. هذه ليست متمنيات ولكنها واقع معيش في دول مثل السويد وفنلندا وكندا ونيوزيلندا وسويسرا وغيرها.

نعم، لا ديمقراطية بدون تنمية، بل وإن ازدهار المجتمعات يضمن بروز طبقات وسطى تحمي مصالحها عبر التداول على السلطة في إطار وسط عريض يتيح هوامش معقولة لتجريب حلول مختلفة لقضايا المجتمع. ولكن هذا لا يمنع من المجاوزة بين الديمقراطية والتنمية في آن واحد. تجارب طايوان وكوريا الجنوبية وسنغفورة وماليزيا والتي عاشت فترات من الحكم الدكتاتوري أسست للتنمية قبل المرور إلى الديمقراطية هي نماذج كرونولوجية ربما غير قابلة لإعادة الإنتاج في وقتنا الحاضر.

ما يهم هو أن الشعبوية خطر قادم، قد يدشن لفترة جديدة من إعادة إنتاج أشكال متعددة من الاستبداد الذي ظنناه ولى إلى غير رجعة. ولا يمكن مواجهتها دون فهم عميق للتحولات التي تعرفها المجتمعات ويعرفها العالم وكذا دون فهم عميق لأزمة الديمقراطية في العصر الحالي. هذا الفهم هو ما سيمكننا من إيجاد نماذج ومقاربات جديدة تتجاوز المسببات بشكل ناجع وتعيد إنتاج ديمقراطية متطورة في خدمة الشعوب وقصاياها وخدمة مستقبل الإنسانية جمعاء.

التعليقات مغلقة.