أعالي جنوب تازة ومقاومة قبيلة بني وراين للاستعمار زمن الحماية
عبد السلام انويكًة
يسجل لأعالي جنوب تازة حيث جبل بويبلان وموسى وصالح وقبيلة بني وارين، ضمن جبهات جبل مغربٍ زمن الحماية الفرنسية وفترة ما سمي مكراً بسياسة “التهدئة”، أنها كانت بأهمية استراتيجية وهاجس وحساسية أمنية لدى القوات الاستعمارية الفرنسية منذ مطلع عشرينات القرن الماضي.
وعيا منها بما يطبع المنطقة ويميزها من مورفولوجيا وبنية مجال صعب ومعقد يمكن اعتماده من قِبل مقاومة محلية، ومن ثمة استنزاف سلطات الحماية على عدة مستويات، فضلا عما قد يحصل من تأثير على مخطط “ليوطي” في تهدئته.
ووعيا منها أيضا بما كانت عليه المنطقة من امتداد مجالي وتحالفات قبلية بين كل من مرموشة وآيت سغروشن ثم بني وراين.
هذه الأخيرة التي وردت حولها إشارات عدة في تقارير سلطات الحماية السرية، معتبرة إياها قبيلة قوية أكثر استعدادا لخوض المعارك، لِما توفره طبيعتها الجبلية من شروط مساعدة، حيث جبل بويبلان وامتداداته المجاورة صوب ملوية شرقا وايناون غربا.
وعليه، ما كان من طبيعة خطط عسكرية للتوغل في مجال القبيلة وإحكام السيطرة على مصادر عيشها ومكامن قوتها البشرية والاقتصادية، غربا عبر منخفض شهير ب”زلول” وشرقا عبر مجال واد مللو ثم بركين.
وكانت القوات الفرنسية قد اعتمدت سلسلة مراكز هنا وهناك مجاليا لإنجاح عملياتها، وعيا منها بحاجتها للدعم والتموين وفق ما ينبغي من قرب وعدة كافية، مع كل عملية ميدانية تهم مجال القبيلة تجنبا لأية ردود فعل غير محسوبة العواقب.
ناهيك عما كان لهذه المراكز العسكرية الأمامية من أدوار استطلاعية استكشافية، لفهم انسان المنطقة وضبط نقاط أمكنته الأساسية الحيوية ومسالكها محليا، من أجل عمليات عسكرية بأقل تكلفة مادية وزمنية.
ولعل من الأسلحة المجالية والاقتصادية التي نهجتها القيادة العسكرية في حربها بجبهة بني وراين جنوب تازة، حصر مجال القبيلة الرعوي خاصة ما يتعلق بالماء وكلأ الماشية، بدفع القبيلة أكثر صوب الجبال والأعالي وإحكام السيطرة على أسافلها وحرمانها من أراضيها الخصبة ونقاط مياهها، ومن ثمة التضييق عليها شتاء حيث ثلوج جبل بويبلان وجواره من المجال، وحيث صعوبة ايجاد مراعي وشروط عيش مناسبة لتجاوز قساوة هذه الفترة من السنة.
وهو ما يضعف من قوة ردود فعلها ومقاومتها بسبب ضعف مواردها، مقارنة مع ما كان يتوفر للقوات الفرنسية من سبل إعداد جيد ومعدات عسكرية حديثة.
يذكر أنه انسجاما مع مخطط سلطات الحماية التوسعي بالمغرب ضمن ما سمي ب”التهدئة”، فقد اعتمدت قيادتها العسكرية منذ مطلع عشرينات القرن الماضي على أنشطة أجهزتها الاستخباراتية، التي تمكنت من معطيات عدة بأهمية استراتيجية تخص قبيلة بني وراين، منها ما يتعلق ببنيتها البشرية وتركيبتها الأمنية والثقافية ومواردها الاقتصادية، فضلا عن نقاط مياهها الأساسية وامتداداتها الترابية الخصبة.
ما تمكنت منه القوات الفرنسية بفرضها أمرها الواقع على القبيلة، خاصة خلال فصل الشتاء حيث انخفاض درجات الحرارة الى مستويات قياسية فضلا عن الثلوج وانقطاع المسالك وصعوبة التنقل والتواصل والعيش. كلها شروط وغيرها دفعت بعض مكونات القبيلة للانفتاح ما كان قائما هنا وهناك، من مراكز أمامية عسكرية فرنسية، من أجل مفاوضات لتوفير الأمان وبالتالي السماح لها بالنزول الى أسافلها لإنقاذ عيشها وماشيتها.
وباعتماد القوات الفرنسية على حرب مجالية اقتصادية، نجعت في تطويق قبيلة بني وراين من أسافلها بضرب نقاط قوتها ووجودها (ماء، أراض زراعية..)، مستفيدة من بعض متعاونيها عن مدينة تازة “هاشم السملالي”، لجمع ما ينبغي من معلومة، وفتح قنوات تواصل وثقة وتجاوز ما كان قائما من صعاب ميدانية، ليتم عبر هذا الأسلوب إخضاع عدد من فرق القبيلة من قبيل”موحند أويوسف” و”بني أخيار” و”بني أحماد” وغيرها.
شروط وغيرها أسهمت في اتساع مجال سيطرة القوات الفرنسية، ودخول مئات الأسر من “آيت سغروشن حريرة” وتسليم أسلحتهم ربيع سنة 1921، ونفس الشئ ما ارتأته فرقة “بني جليداسن” الوراينية. لينفتح المجال أكثر للقوات الفرنسية من أجل التوغل في جبال بني وراين على مستوى فرقة “بني بوزرت” وما جاورها.
فضلا عما طبع غرب مجال قبيلة بني وراين حيث “هرممو” و”بني مكود” وغيرها، وما حصل من معارك انتهت باستسلام عدد من فرق القبيلة، مع نزيف في خضوع مئات الأسر الوراينية بالمنطقة “إغزران”. ولم يكن تقدم القوات الفرنسية المجالي في تراب بني وراين دون خسائر، نظرا لِما كلفته العمليات من قتلى وجرحى في صفوف الجنود والضباط الفرنسيين.
هكذا انفتح المجال أمام القوات الفرنسية لتوسيع أطماعها صوب عدد من المواقع ذات الصلة مجاليا من قبيل “مرموشة” و”آيت سغروشن” وغيرهما، معتمدة على كتائبها العسكرية وحروبها غير المتكافئة عُدة وعتادا، دون نسيان ما لعبته وحداتها العسكرية المتنقلة من دور في إحكام السيطرة على عدد من مواقع قبيلة بني وراين.
اللهم ما وفرته شروط طبيعية جبلية وعرة، من حماية دفاعية للمقاومة الوراينية ممثلة في “بني جليداسن”، مستفيدة من تعبئة وتحفيز زعيمها “محمد ابلقاسم أزروال”، ومن تجميع قوات وراينية عبر توحيد قوتها ومقاومتها، رغم ما كان من تواضع ومحدودية عُدة قتال وما كانت عليه القوات الفرنسية من قدرات عسكرية تقنية حديثة، من قبيل الطيران الحربي الذي كان بأثر في قنبلة عدد من مواقع القبيلة، ومن ثمة تشتيت قواتها ومنع توحيد صفوفها وقدراتها القتالية.
هكذا تم بلوغ “واد زبزيط” و”بركين” بعد معارك عدة وخسائر بشرية معبرة في صفوف المقاومة خلال ربيع سنة 1923، لتتجه جهود القوات الفرنسية صوب مجال”بني بوزرت”معتمدة على ما جمعته من معطيات عبر مخبريها من الضباط، معتمدة على مركز بركين كقاعدة خلفية وعلى سلاحها الجوي.
وكان إخضاع “بني بوزرت” خلال نفس الفترة بحسب الأرشيف، قد كلف تقريبا نصف مقاتليها.
وقد اعتمدت القوات الفرنسية في توغلاتها المجالية بجبال بني وراين جنوب تازة حيث الأطلس المتوسط الشمالي الشرقي، على استراتيجية إحداث عشرات المراكز الأمامية لدعم وتجميع القوة، من اجل عمليات جديدة صوب وجهات جديدة، ما ساعد على مزيد من تراجع مقاومة قبيلة بني وراين وخضوع مكوناتها.
هكذا كانت هذه المراكز الدفاعية باعتبارها منطلقات عسكرية لعمليات هجومية جديدة، بعد توفير شروط توغلات بأقل تكلفة زمنية ومادية وبشرية. وهكذا فضلا عن شروط طبيعة قاسية أضعفت مقاومة قبيلة بني وراين خاصة خلال فصل الشتاء، لعبت استراتيجية التطويق آلية عملية للسيطرة وتجميع القوة واسترجاعها، ومن ثمة القدرة على مراقبة كل المجال من شرقه الى غربه، حيث جرسيف وامسون وتاهلة ومطماطة وغيرها.
وهكذا ايضا كان خلق الأزمة في صفوف وقوة بني وراين، أسلوبا لإضعاف مقاومتها وفرض عزلتها وانكماشها في الجبل. وهو ما لم يمنع من ردود فعل وراينية عنيفة من حين لآخر، كلما تم تجميع قواتها واختيار أهدافها خاصة خلال أواسط عشرينات القرن الماضي، مع ما كان يصل من صدى انتصارات تخص ثورة الريف بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي منذ معركة أنوال، وما كانت عليه هذه الثورة من تهديد حقيقي لممر تازة لاحقا، باعتباره نقطة اتصال استراتيجية مجاليا يصعب التخلي عنها في علاقة شرق البلاد بغربها.
وعليه، ما كان من هاجس تخوفات تخص أمن هذا الممر الحيوي. بحيث لم تكن سلطات الحماية الفرنسية بقلق شديد فقط، حول ما يمكن أن يحصل على مستوى هذا الممر، إنما أساسا تجاه ما قد يحدث من عدم استقرار ومقاومة وراينية على مستوى جنوب تازة الجبلي. وبالتالي التحاق القبيلة من خلال زعمائها بثورة الريف مثلما حدث مع قبيلتي البرانس والتسول، في تماس مع المنطقة الخليفية الخاضعة للاحتلال الاسباني شمال تازة.
ولعل توغل وضغط المقاومة الريفية على الوجود الفرنسي بممر تازة الاستراتيجي، معتمدة على ما بات لها من أنصار وقواعد خلفية بتراب قبائل شمال تازة أواسط عشرينات القرن الماضي، كان بأثر في زعزعة وضع المنطقة الأمني، ومن ثمة إقدام القوات الفرنسية على تعبئة كل قواتها وامكاناتها مع حالة استنفار قصوى، لاستعمال أقصى ما يمكن حفاظا على نقطة تواصل غرب البلاد بشرقها عبر تازة.
دون إغفال منع كل انفلات وتسرب ريفي صوب جنوب تازة، حيث ما عرف ب “بقعة تازة” (المجال الذي كان مسرحا للعمليات العسكرية بعد الحرب العالمية الأولى بجنوب تازة، تحديدا جبل بويبلان وجبل موسى وصالح)، الوجهة التي تعبأت لها القوات الفرنسية بما يكفي من سياسة وقوة عسكرية، بعد استسلام زعيم الريف إثر تحالف عسكري إسباني فرنسي ميداني سنة 1926. لينفتح لها المجال من أجل توجيه عنايتها كاملة لإنهاء قضية “بقعة تازة”(بويبلان) ومقاومة بني وراين، معتمدة على كل امكاناتها البرية والجوية.
ويسجل أنه بقدر ما تمكنت القوات الفرنسية من المجال بين مدينة تازة ومركز مغراوة وبينها وبين مركز هرممو، باعتبارها قواعد ومراكز خلفية سمحت بمزيد من الضغط والرقابة المجالية، بقدر ما لم يمنع هذا من بعض جيوب مقاومة وراينية عنيفة بالمنطقة.
ويسجل ما كان لعنصر الجبل ومن ثمة لمناعة طبيعة، من دور داعم لقوة مقاومة قبيلة بني وراين، ومن أثر فيما خلفته معاركها من خسائر بشرية في صفوف القوات الفرنسية، رغم ما طبع هذه المعارك من عدم تكافؤ في قدرات القتال. لتكون سنة 1926 فترة حصار حرج ضُرب على ما تبقى من مقاومة بني وراين اقتصاديا وعسكريا وتواصليا.
حيث باتت مجالها تحت رحمة طيران حربي استعماري فرنسي، كان وراء استسلام المقاوم”أسعيد أمحند” رفقة مقاتليه، لتتسع رقعة الخضوع وتشمل أسرا عدة اضطرت لتسليم اسلحتها، فيما اختارت أخرى الفرار الى جهات مجاورة صيف نفس السنة. مع أهمية الاشارة الى أن ما شهدته المنطقة من عمليات عسكرية استعمارية منذ 1923، كان ضخما نظرا لِما تم اعتماده فيها من موارد بشرية ميدانيا.
ولِما كان هناك من صعاب طبيعية كان يجب التغلب عليها، فضلا عن تعدد وتباين مجالات العمليات التي استهدفت متابعة تنزيل ما سمي ب”التهدئة” بالمغرب، وفق مذكرة للمقيم العام “ليوطي” في 16 دجنبر من نفس السنة.
ولعل من العمليات التي كانت بنوع من الأهمية والأسبقية، تلك التي استهدفت حصر مقاومة ما عرف ب”بقعة تازة”، ومن خلالها حصر مقاومة بني وراين بجبال الأطلس الشمالي الشرقي، حيث جنوب تازة وما كان هناك من قلاع مقاومة مهددة لخط الاتصال الوحيد المجالي عبر تازة مع الجزائر.
يذكر أن العمليات العسكرية التي توجهت صوب مجال قبيلة بني وراين ضمن “بقعة تازة”، احتاجت لإعداد دقيق وخطط تدخل، فضلا عما أحيطت به مراكز الانطلاق من عناية وتهيئة وتنظيم كقواعد تم تحديدها من قبل القيادة العسكرية. مع توفير ما يلزم من سبل تواصل بين هذه القواعد في علاقتها بالسكة الحديدية ونقاط تموين عبر الشاحنات.
ناهيك عن وسائل نقل خاصة بالعتاد على مستوى مراكز انطلاق تم بها تركيز فرق عسكرية. كل هذا من اجل “بقعة تازة” التي اعتبرت العملية الأكثر أهمية، لِما خصص لها من موارد عسكرية بشرية ومادية وتنظيمية هامة ميدانيا من خلال خطة اعتمدها قائد العملية الجنرال”poeymirau”، وقد استهدفت توسيع مجال حماية مسلك “تاغزفت” القصير المسافة بالنسبة لشاحنات الإمداد.
تبقى مقاومة قبيلة بني وراين للاحتلال الفرنسي في عشرينات القرن الماضي، واحدة من ملاحم المقاومة المسلحة الجبلية ذات العمق الوطني الشعبي، ضمن هوامش الجبال المغربية وجبل تازة تحديدا، وضمن ذاكرة رمزية محلية غنية بمعاني عظمة وقوة وغيرة انسان عن أرضه وهويته ووطنه.
فقد أبانت قبيلة بني وراين من خلال رجالاتها وزعمائها، عن صمود متفرد وصفحات مجد على امتداد سنوات، من خلال ما أبدته من مقاومة شرسة في وجه توغل القوات الفرنسية بالمنطقة، رغم ما كان عليه واقع حالها من قتال غير متوازن عُدة وعتادا. ولعل قبيلة بني وراين بصفحاتها الرمزية الوطنية هذه، هي ذلك الجبل الشامخ جنوب تازة الذي كان مسرحا لعمليات مقاومة شعبية عفوية وتضحيات جسام دفاعا عن الوطن.
ويسجل أنه رغم ما تراكم من نصوص بحثية علمية حول الموضوع عن هذه الفترة الحرجة من زمن الحماية بالمنطقة، من خلال ما حصل من انفتاح باحثين خلال العقدين الأخيرين على ما توفر من أرشيف وطني وأجنبي وما تراكم من دراسات تاريخية ذات صلة.
رغم كل هذا لا يزال مجال مقاومة قبيلة بني وراين للاحتلال الفرنسي خلال عشرينات القرن الماضي، بحاجة لمزيد من الأبحاث والمقاربات الرصينة نهجا وتأسيسا ومعرفة وتوثيقا وأرشيفا رافعا، لإبراز ما لا يزال دفينا من وقائع وتطورات وشخصيات وتفاعلات واتصالات وأحداث، فضلا عن مؤسسات جماعية واجتماعية وروحية وغيرها من السبل التي كانت ذات أثر وعلاقة.
بعض فقط من زمن جبل بويبلان وجواره زمن الحماية الفرنسية والمقاومة الأولى المسلحة بالمغرب سنوات العشرينات من القرن الماضي، وبعض فقط من انسان ومجال ومعارك وذاكرة قبيلة بني وراين خلال هذه الفترة الحرجة من زمن البلاد، حيث التوغلات المجالية الاستعمارية في اطار ما سمي بالتهدئة وما هي بتهدئة، وحيث مائة سنة عن وقائع جبال جنوب تازة وتضحيات قبيلة بذاكرة وطنية رمزية واسعة.
التعليقات مغلقة.