أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

أعيدوا أبناءكم إلى حضن الوطن؟

إكرام عبدي

ليست المواطنة مجرد جنسية تسافر معنا في جوازاتنا، ولا بقعة جغرافية نتقاسمها مع جماعة نفترش وإياها بساط المكان والثقافة والقيم، ولاهي قوانين مرصوصة في دساتيرنا ومراسيمنا القانونية، أو شعارات تحلق في سماء خطاباتنا، ولا مجرد معرفة وثقافة؛ بل هي آصرة وجدانية وعاطفية تشدنا بوطننا، وسلوك وممارسة يجدان مصبهما الطبيعي في كل محيط حياتنا، و”عقد اجتماعي” ينسجه المواطن مع الدولة، قوامه أن المواطن ليس من الرعايا يجيد الامتثال والخضوع فقط، بل له حقوق يتنفسها في سماء وطن حر، وواجبات لا سبيل للتبرم أو التملص منها، وأن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ليست مِنّة أوهبة من أحد، ولا نحتاج إلى التلفع بأردية الرشوة أو التزلف والتملق والمراوغة… للظفر بها، وأن الوطن ليس بقرة حلوبا، بل أما حنونة علينا حمايتها ورعايتها والانتماء إليها بحب وشفافية ووعي ومسؤولية ومبادئ وأخلاق، بعيدا عن أية انتهازية ووصولية.

هي الشعور بالانتماء لوطن آمن عادل، كحاجة ضرورية على الإنسان إشباعها ليقهر عزلته وغربته وكي لا يكون مجبرا على تدمير ذاته وإحراقها ولا مجبرا على تهجير جسده ودماغه، والحظوة في وطنه بحياة جديرة بإنسان له كرامة، بديمقراطية ومساواة وتكافؤ للفرص، وطن يعترف بكفاءته وقدراته، وطن يساهم  المواطن في نسج خيوطه وصوغ قراراته، يمنحه القدرة على التفكير والإبداع والتخييل والمشاركة وحرية الرأي، يستشعر في ردهاته أنه ليس مجرد متفرج سلبي ،بل مشارك ومحاور وصانع للسياسات وناقد لها، ناخب ومنتخَب ومحاسب لمؤسسات الدولة، وطن يسع الجميع بكل اختلافاتهم وتنوعهم، بلا تمييز وإقصاء وتهميش على أساس المعتقد والأصول القومية والعرقية أوالجنس أو اللغة أو الايدولوجيا، وطن يصك الدساتير بطريقة توافقية تراعي مصالح وحقوق فئات وطبقات المجتمع دون التقوقع في خطاب جامد.

ليست المواطنة مجرد فضاء جغرافي يلمنا، بل نضال وتعايش وتساكن وتشارك كي نكون جديرين بدفق هاته الكلمة المواطنة في عروقنا. هي وسيلة لا هدف لحياة أفضل وأكثر ديمقراطية ، فكلمة مواطنة حسب المفكر المغربي محمد عابد الجابري، مشتقة من الفعل الثلاثي المزيد “واطن” أي شارك وعايش وساكن وليس “وطن” أي أقام وسكن، ليست المواطنة رجلا يمارس الشأن العام ويحتل المجال العمومي وحده، ولا امرأة مواطنة من الدرجة الثانية،غير مكتملة المواطنة، بل هي ثنائية رجل وامرأة؛ وبوجودهما معا ندلف فعلا مجتمع المواطنة.

تبدو المواطنة كمفهوم زئبقي عصي على الإمساك به، يغتني بسيرورة المجتمع وبالتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبمدى وعينا بتلك السيرورة، ولا يتشكل دفعة واحدة. وكلما تراجعت سيطرة القوى الظلامية المعادية للتنوير، المؤيدة للفكر القروسطوي الرجعي، وحلت تلك الساعية إلى العصرنة والتحديث؛ كلما اغتنت المواطنة بحزمة من الحقوق والواجبات.

وفعلا، فقد انتعشت المواطنة بصوت الثورات العربية الصادح، وبقيم التمرد والاحتجاج والتغيير والتحدي والجرأة والمجابهة، ضدا على ثقافة الخوف والطاعة والخنوع التي طالت الشعوب لأزمنة خلت، وأعاد الربيع العربي النقاش عن  المواطنة إلى الواجهة، كما بدأ المواطن العربي يتهجى أبجديات “مواطنة” لطالما انطرب لسماعها في خطابات الساسة والحكام المخلوعين؛ ولطالما انتشى بوقعها الغربي الأثير، وغدا يمسك بخيوطها. لكن أكثر ما يرعب المواطنة ويفقرها هي تلك النزعات القبلية والطائفية والعرقية والاثنية التي توهن هاته المواطنة وخاصة إذا جوبهت هاته القوميات والأقليات بالإقصاء والتهميش بعيدا عن لغة الحوار والتعايش.مما يستلزم إعادة صوغ مفهوم للمواطنة يشمل مكونات هوية جامعة للإنسان العربي.

كما اغتنت المواطنة بالثورة المعلوماتية وبقيم “العولمة”، تلك التي ألغت الحدود وجعلتنا حيال “مواطنة عالمية” أو “مواطنة متحركة” حيث صار وعينا والتزامنا ومسؤوليتنا لا تتقيد بدائرة وطنية محددة بل تتجه صوب مشاكل إنسانية  كخطر الإرهاب الذي وإن كان عالميا، لكن عادة يلبسونه لبوسا عربيا، ومشاكل بيئية كالاحتباس الحراري وانتهاكات حقوق الإنسان والفقروالمجاعة وغيرها من الأزمات التي تطال شعوبا قصية مكانيا ولكنها قريبة منا إنسانيا ووجدانيا.

لقد صارمن الضروري بعد الربيع العربي، بناء “عقد جديد” بين المواطن العربي ووطنه، عقد يعيد له الكرامة والعدالة اللتين طالما بح صوته من أجلهما في الساحات والميادين، عقد ينسجه منذ طفولته في إطار تربية أسرية ترضعه حليب حقوقه كطفل وراشد، وكذا قيم الالتزام والمسؤولية والتفاني في الإخلاص للوطن .ناهيك عن قيم الافتخار والاعتزاز والرضى بمجتمع لطالما عانوا فيه الأمرين في ظل حكام طغاة، ويتشرب عبر أسرته قيم المواطنة قطرة قطرة، في المناهج التعليمية، كي يعي الطفل جيدا ما له من حقوق وما عليه من واجبات.

يعز علينا أن نجد أطفالا بلا هوية في حضن بعثات أجنبية ومدارس خاصة، غير معنيين بما يجري في وطنهم، يستهينون بوقفة النشيد الوطني. أطفال لا يربطهم بالمكان سوى شهادة  الميلاد، وأنا على يقين أن أولياءهم وهم يقيمون جدارا بين أولادهم، وبين لغتهم وتاريخهم وثقافتهم وتراثهم، إنما يوهنون علاقتهم الأسرية بأبنائهم، ويجتثون بعنف جذورهم، ويمحون ملامح هويتهم.  فحضن الوطن وإن قسا أحيانا فهو ليس أقل دفئا من حضن الوالدين.

فهلا أعدتم أبناءكم إلى حضن وطنهم ؟

التعليقات مغلقة.