أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

أفلاطون : مقارنة بين كتاب “الجمهورية” و كتاب “القوانين”

 أفلاطون عايَنَ الهزات السياسية العنيفة التي أودت بحياة أستاذه سقراط، الى نشأة فكرية لإقامة دولة مثالية تحقق براديغم العدالة التي كان يسعى إليها على الدوام، حيث رسم معالم مدينته المثالية في كتاب”الجمهورية La République ” كرد فعل لواقع سياسي واجتماعي فاسد، رأى فيه عدم الإصلاح بمسكنات هنا وهناك، وإنما بالعلو فوقه والابتعاد عنه ورسم صورة لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع السياسي المعبر حقيقة عن الطبيعة الإنسانية التي جوهرها حب الخير والعدل وقوامها الحكمة والفضيلة.

التصور السياسي العام للفلسفة الأفلاطونية من خلال مجمل أهم  الأفكار التي ضَمنها في كتابه “الجمهورية”، مع تبيان المنقلبات التي سيعرفها موقفه في محاورة “القوانين”، سيعرف تراجعا عن مجموعة من الأمور منها تبيان الرؤية العامة للسياسة عند أفلاطون من خلال التركيز على أوجه التلاقي والاختلاف بين النظرية السياسية المثالية في الجمهورية والنظرية السياسية الواقعية في الشرائع أو القوانين.

1- كتاب الجمهورية نحو بناء سياسي مثالي مغلق وصارم يتناول محاورة الجمهورية مجموعة من المواضيع يمكن تصنيفها على الشكل التالي:

الكتاب الأول: مقدمة في الآراء الشائعة عن العدالة.

الكتاب الثاني والثالث والرابع: العدالة في الدولة والفرد.

الكتاب الخامس والسادس والسابع: نظم الدولة المثلى وحكم الفلاسفة.

الكتاب الثامن والتاسع: تدهور المجتمع والفرد.

الكتاب العاشر: (حتى 608): الصراع بين الفلسفة والشعر: (608 إلى النهاية): مصير الإنسان وخلود النفس.

يبتدئ الكتاب بطرح سقراط للسؤال التالي: ما معنى كلمة العدالة؟ وهنا أتت أربع إجابات يعرف بها محاور العدالة:

1. العدالة هي أن تقول الحق وأن تدفع ديونك، بمعنى العدالة متمثلة في الأمانة في القول والمعاملة.

2. العدالة هي عمل الخير للأصدقاء وإلحاق الضرر بالأعداء.

3. العدالة هي مصلحة القوي.

4. العدالة تكون وسطا بين أحسن الأشياء وأسوأ الأشياء.

في هذا السياق يحاول سقراط (أفلاطون) تصحيح الفهم الخاطئ للعدالة، فالعدل في نظره ناشئ عن اجتماع الناس، فلولا هذا الاجتماع لما بحثوا عن عدل يسود بينهم، والإنسان يحتاج إلى الأغيار لتأمين حاجاته، خصوصا في المجتمعات البدائية، أما في المجتمعات المتحضرة فالأمر يتجاوز العمل إلى من يحكم.

يقول سقراط: ” إن العدالة وهي موضوع بحثنا، توجد في الفرد بوصفها فضيلة له، فإنها توجد أيضا في الدولة”.

لن يقبل أفلاطون الطابع النسبي للعدالة، حيث يحاول أن يرتقي بالعدالة نحو المثل العليا من خلال الكشف عن طبيعتها الخالدة المقدسة، بكون أن العدالة لها سمات وصفات أساسية كونها تخلق الوحدة والاتساق سواء بالنسبة للفرد أو الدولة.

ومن هذا المنطلق يبدأ أفلاطون فكرته بتقسيم المجتمع إلى طبقات وتخصيص كل طبقة بعمل خاص بها، ويؤكد في المقابل على أن هذه المدينة يجب أن تعتمد على نفسها بكل شيء وليست بالحاجة إلى غيرها ومن أهم شروط الدولة الأفلاطونية المثالية :

وجود رقعة أرض كافية تقوم عليها الدولة، اضافة إلى المكملات الأخرى ومنها الحراس لحمايتها من النهب والسلب أو حراستها من المعتدى إذا تم الاعتداء عليها لهذا السبب لابد من تدريب بعض من الشعب تدريبا عسكريا ويكون مجهزا للدفاع عن الدولة المثالية.

وهكذا يتضح لنا أن أفلاطون يبني دولة مثالية من شعب مثالي لأن الشعب يحتاج إلى تجهيزه للعيش في هذه الدولة وفي هذا المنحى اتجه أفلاطون إلى تقسيم النفس الإنسانية باعتبارها عنصر المجتمع وأساسه إلى ثلاثة قوى :

1. العاقلة/الحكام

2.الغضبية/الحراس

3. الشهوانية/ عامة الناس

مع العلم أن الحاكم في نظر أفلاطون يجب أن يكون فيلسوفا ويسميه المثل الأعلى، فالفيلسوف وحده الذي يدرك المثل لا الاستبداد.

لاسيما أنه لا يطمح إلى السلطة من أجل المال أو اي جاه ولا تسلط بل غايته المصلحة العامة فقط ، لذلك يؤكد أفلاطون على ضرورة عدم اقتران الفلاسفة بامرأة معينة، كي لا تأخذ منهم الأسرة مهام ومسؤولية الدولة ،كما يطلب أن تكون النساء مشاعة لهم دونما أن يعرف الأب ابنه ولا المولود والده.

وفي الوقت نفسه لا يضع لعامة الناس أي نظام سوى أنه يطالبهم بأن يتبعوا الأخلاق الشعبية المتبعة، والالتزام بالعادات والتقاليد الموروثة.

فحكم الفيلسوف أفلاطون أن النهاية الحاسمة لشرور البشر، والبداية الحقيقية للعصر الذهبي للإنسان حيث يقول: ” ما لم يصبح الفلاسفة ملوكا في بلادهم، أو يصبح أولئك الذين نسميهم الآن ملوكا وحكاما فلاسفة جادين متعمقين، وما لم تتجمع السلطة السياسية والفلسفة في فرد واحد، وما لم يحدث من جهة أخرى، إن قانونا صارما يصدر باستبعاد أولئك الذين تؤهلهم مقدرتهم لأحد هذين الأمرين دون الآخر من إدارة شؤون الدولة – ما لم يحدث ذلك كله، فلن تهدأ، يا عزيزي جلوكون، حدة الشرور التي تصيب الدولة، بل ولا تلك التي تصيب الجنس البشري بأكمله(…)”.

فالإنسان المثالي عند أفلاطون هو الذي يستطيع أن يجعل قوته العاقلة مسيطرة عن الغضب والشهوة، وكذلك الدولة العادلة لكي تصير مثالية يجب أن تسيطر فيها طبقة الحكام (الفلاسفة) على الجنود والعمال.

ولا ينبغي حسب أفلاطون الخلط بين الطبقات الثلاث، بل يجب على المرء الالتزام بالوظيفة التي تلائمه في الدولة، وهنا تصبح العدالة هي أن يمتلك الفرد ما ينتمي فعلا إليه، ويؤدي الوظيفة الخاصة به.

يقول أفلاطون على لسان سقراط: “إن من الصحيح أنكم جميعا، يا أهل هذا البلد، اخوة، غير أن الله الذي فطركم قد مزج تركيب أولئك الذين يستطيعون الحكم منكم بالذهب ،لهذا كان هؤلاء أنفسكم ثم مزج تركيب الحراس بالفضة، وتركيب الفلاحين والصناع بالحديد والنحاس”.

دون أن نغفل أن أفلاطون في صدد رسم ملامح جمهوريته، نجده قد طرد منها الشعراء والفنانين، كونهم في نظره لا يفقهون شيئا شعرهم وفنهم، لأن المحاكاة هي ما يميز عملهم وهذا النوع من الشعر يثير المشاعر والأحاسيس ويصيب الفرد بالضعف والهوان، في حين أن ما تحتاجه الدولة هو الشعر البطولي الذي يقوي النفوس ويبعث على الشجاعة والإقدام. يقول: “ففي الموسيقى يؤدي التنوع إلى الفساد، وفي الجسم رأيناه يؤدي إلى المرض ،أما البساطة، فهي على عكس ذلك، تؤدي في الموسيقى إلى غرس فضيلة الاعتدال في النفس، كما تؤدي بساطة الرياضة إلى إبقاء الجسم صحيحا؟ أليس كذلك”.

وبناء عليه فالعدالة حسب أفلاطون لاترتبط بالمساواة أدنى بارتباط، بل هي في الواقع تأكيد للامساواة، إنها الحفاظ على الفوارق بين الناس وليس إلغائها، فوحدهها االمؤهلات والقدرة على التصرف والفعل من يحدد الانتماء لهذه الطبقة أو تلك، والمجتمع العادل يبدأ بتنشئة الفرد العادل، والمجتمع هو تكاثر أفراد، والفرد هو وحدة المجتمع فإذا ما أحسنا تنشئة الأفراد، حصلنا على مجتمع متزن وعادل ،ومن خلال هذا المجتمع ميز أفلاطون الدولة الأرستقراطية العادلة التي تتدرج حتى تصبح دولة غير عادلة.

يقول سقراط في هذا الصدد: ” ليس من الصعب أن ألبي رغبتك، إذ أن للحكومات التي أقصدها أسماء معروفة” منها :


أولها الحكومة المشهورة في كريتو إسبرطة وهي الحكومة التييشيع الإعجاببها.

والثانية في الترتيب وفي المكانة،تسمى بالأولي جارشية، وهي حكومة فيها عيوب عديدة.

وتليها حكومة هي عكس السابقة، وأعني بها الديمقراطية.

وأخيرا حكومة الطغيان، التي يظن أنها حكومة مجيدة، والي تتجاوز الأخريات جميعا من حيث أنها الداء الرابع والأخير للمجتمع”.

فالحكومة الفاضلة إما أن يتولاها فرد فتسمى ملكية، وإما أن تتولاها جماعة فتسمى أرستقراطية، وقد يحدث خلل ما في نظام التربية فيضطرب النظام فيسيطر الجند ويسخرون الأرض والعباد لمصالحهم الشخصية، وتسمى هذه حكومة الطماعين أو التيموقراطية، ويصبح للمال شأن عظيم وتنقسم المدينة إلى أغنياء وفقراء، وتسمى حكومة الأغنياء أو الأوليجارشية، فتزداد ثروة الأغنياء ويثقل الشباب بالضرائب، ما يولد الثورة، فيفوزالفقراء ويستولون على الأغنياء المترفين، وهذه هي الديمقراطية أو حكومة الكثرة.

مع العلم أن أفلاطون كان ميالا للحكم الأرستقراطي، ولا عجب في ذلك، لأنه أرستقراطي الأسرة والنشأة والتفكير.

هكذا نكون قد عرضنا بشكل مقتضب أهم معالم النظرية السياسية الأفلاطونية في محاورة الجمهورية، وسوف ننتقل الآن للحديث عن التحولات التي عرفها هذا التصور في محاورة القوانين أو الشرائع، ذلك لمعرفة كيف تحولت الفلسفة السياسية الأفلاطونية من مقاربة مثالية ومتعالية إلى مقاربة محايثة ومصاحبة للعالم الأثيني المعيش.

2- محاورة القوانين نحو تصور واقعي لسياسة المدينة حينما نتصفح كتاب “القوانين” الذي هو عبارة عن محاورة بين ثلاث شخصيات هم:

(الغريب الأثيني، كلينياس الكريتي، ميجالوس الإسبرطي)، وتبدو كما يدل على ذلك اسمها أنها شخصيات خبيرة في المجال السياسي، وما يثير الانتباه أكثر هو الغياب التام لسقراط، وهذا إن دل عن شيء فإنما يدل على تميز وتحرر الفكر الأفلاطوني عن فكر أستاذه سقراط، حيث نلمس تطورا كبيرا لديه سواء من حيث المضمون أو الأسلوب.

“ففي محاورة القوانين يعرض أفلاطون نموذجا آخر لمدينة فاضلة أخرى وهي لا تختلف في جوهرها عن المبادئ الأساسية التي قامت عليها المدينة الأولى في “الجمهورية”؛ فهي تعتمد على إفراغ ما في عقل الفيلسوف من قوانين يمكن أن تحكم بها مدينة تعمل على خير جميع مواطنيها وإسعادهم، ووضعها على هيئة دستور دائم يكون هو الحاكم الفعلي لهذه المدينة”.

” تتلخص أطروحة أفلاطون في محاورة “القوانين” في القول بوجوب أن يكون للمدينة (الدولة) دستور والغاية من ذلك هي تحقيق المثل العليا للمدينة كما رسمته الجمهورية، شريطة مراعاة طاقة الإنسان ومقتضيات حياته.

ولبسط القول حول هذه الأطروحة، عمد أفلاطون إلى تقسيم محاورته إلى إثني عشر كتابا يمكن أن نلخص أفكارها ومحتوياتها كالآتي:

الكتاب الأول هو عبارة عن مقدمة عامة يتحدث فيها أفلاطون عن ضرورة قيام التشريع على الفضيلة والعدالة.

ويمكن تلخيص مضامينه في ثلاثة أفكار أساسية:

أ‌. هدف الدولة هو السلم لا الحرب، حيث ينتقد في هذا الأمر التشريع الكريتي القائم على الاستعداد للحرب.

ب‌. نقد التحريم الإسبرطي والكريتي للخمر وما شابه ذلك من أنواع اللذات والمتع التي يقبل عليها المواطنون.

ت‌. إن الطفل الصغير الذي لم يجرب أبدا الخمر وغواياته، يستطيع أن يحصن نفسه بالعفة دون مجاهدة.

أما الكتاب الثاني فيظهر فيه أفلاطون المزايا الاجتماعية التي يمكن أن نستمدها من التنظيم المناسب لاستعمال الخمر، والتي لا تظهر إلا بعد فحص مزايا الموسيقى والشعر وغيرها من الفنون كمطية للتعليم الأخلاقي المبكر.

ويختمه بالإشارة إلى وجوب تهذيب الحاسة الخلقية عند الطفل.

في حين أن الكتاب الثالث يبدأ بتساؤل الأثيني حول ماهية المدينة وكيف تقوم الدولة، وما هو الدستور الناجع لهذه المدينة؟

حيث يعود أفلاطون إلى التاريخ اليوناني القديم للإجابة عن هذا الإشكال، متتبعا كيف تطورت النظم والدساتير السياسية. وينتهي هذا الكتاب بتأكيد أفلاطون على الحكومة الأرستقراطية المقيدة بهيئات نيابية، والتي تكفل التوازي بين السلط المختلفة، في مقابل حكومة الطغيان التيتغاليفي حبا لسلطة،أو حكومة الديمقراطية التيتغاليفي الحرية.

ولعل عداء أفلاطون لهذه الحكومة الأخيرة يعود في اعتقادنا إلى سببين رئيسيين:

الأول: هو اعتبار شخصي بالدرجة الأولى؛ ويتعلق بموت أستاذه سقراط، حيث أن من أعدمه كان هو الحكم الديمقراطي.

الثاني: وهو اعتبار تراتبي، حيث أن الديمقراطية لا تحترم التراتب الكوسمولوجي الموجود في الطبيعة فهي تعتبر أن كل شيء متساوٍ من حيث القيمة، والحال أن هناك تراتب في الطبيعة يفرض نفسه أيضا في السياسة ويحكمها.

ويتطرق الكتاب الرابع للخصائص الطوبوغرافية للمدينة. فعلى السياسي أن يضع نصب عينيه الخصائص الجغرافية للمدينة، وهو ما نلمسه في قول أفلاطون على لسان الغريب الأثيني هذا: ” ما يهمني أكثر في سؤالي هو هل يكون الموقع بحري أم غير بحري”.

من الكتاب الخامس إلى الكتاب الثامن: يعرض أفلاطون نظام الدولة السياسية وقوانينها، حيث يعالج في البداية سمات البناء الاجتماعي والسياسي لمدينته المثلى والتي تتلخص فيما يلي:

أ‌. أنه كيان من التشريع المنسق المنهجي.

ب‌. جهازا تنفيذيا من الحكام القضائيين، والمجالس الرسمية لتطبيق ذلك التشريع في السياق نفسه يؤكد أفلاطون على أنه يجب أن يكون أساس الاجتماع البشري داخل المدينة “غير مشاعي” أي أن نظام العائلة الخاصة وما يتعلق به من ملكية سيكون من النظم الأساسية.

وهكذا يتضح أن هناك نوع من التراجع عن الشيوعية التي تقول بها “الجمهورية”.

لينتقل في الكتاب السادس، والسابع، والثامن للحديث عن دستور أهم المأموريات القضائية والمكاتب الإدارية، حيث يقول أفلاطون على لسان الأثيني:

“والآن وبعد كل ما عالجناه، سيكون عملك التالي فيما أظن، هو تكوين المأموريات في مجتمع” كما يعالج في هذه الكتب الثلاثة بعض القوانين الخاصة بسن الزواج والخدمة العسكرية والتربية.

من الكتاب التاسع إلى الكتاب الثاني عشر:  يتطرق للجزاءات والعقوبات المتعلقة بكل أنواع الجرائم والنزاعات، كالاختلاس والسرقة وغيرها…

بعد أن عرضنا المواضيع الأساسية التي تحدثت عنها محاورة القوانين، ننتقل الآن للحديث عن أوجه الاختلاف بين هذه المحاورة ومحاورة الجمهورية لمحاولة فهم كيف تم الانتقال من النظرة المتعالية أو لنقل المثالية التي دشنها أفلاطون في الجمهورية إلى نظرة محايثة وواقعية في الشرائع.

3- من مدينة الجمهورية إلى مدينة القوانين : في البداية يجب التذكير بمسألة أساسية تتعلق بالتضارب الحاد بين المدينة التي عاش فيها أفلاطون والمدينة التي عاشت في وجدان أفلاطون، فصدمته مزدوجة إزاء حكومة الثلاثين، التي أظهرت الطغيان نظاما متناقضا، من الحكومة الديمقراطية التي أبانت عن اعتباطية الإجراءات الاستشارية في مدينة المساواة تمثل خطرا لا يقل عن ذلك الذي يعرض الطاغية المدينة له.

لهذا فالسياسة الأفلاطونية بوجهاتها المختلفة تتغذى على هذا التوتر القائم بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، الشيء الذي سيجعله يعيد النظر في الخطوات العملية لتحقيق المدينة الصالحة على أرض الواقع، بعدما كان اهتمامه في محاورة الجمهورية منصبا على بيان النموذج المثالي للمدينة.

ولعل سبب هذا التقلب مراده في اعتقادنا إلى إدراك أفلاطون أن حلم الجمهورية صعب المنال إذا لم نبدأ بالقوانين الصالحة والفعالة، والتي من شأنها أن تقودنا نحو مدينة فاضلة يحترم مواطنوها قوانين مدينتهم. فإذا كان كتاب الجمهورية قد راهن على تحقيق مدينة فاضلة يترأسها الملك الفيلسوف يكون هو عقلها الآمر والمشرع الوحيد للقوانين التي تنظمها، فإن محاورة القوانين قد راهنت على دراسة التشريعات الصالحة واللازمة للمدينة الفاضلة.

بحيث يكون الحاكم والمحكوم معا خاضعين لها ولسلطتها.

ومعنى هذا أن أفلاطون هنا سيحاول تقديم نظرية في الحكم السياسي تجعل الحاكم والمحكومين متساوين امام القانون، وهذا الأمر يعكس بجلاء لماذا استدعى أفلاطون في هذه المحاورة شخصيات بارزة من ذوي الخبرة الواسعة في عالم السياسة فكرا وممارسة.

يمكن القول إن محاورة “الجمهورية”مجرد صورة خيالية لي نموذج مثالي متعالٍ عن الواقع، فأفلاطون لم يقصد منها أن تعالج شؤون الواقع أو تساعد على حل مشكلاته، حيث يقول في الكتاب الخامس من الجمهورية:

” وعلى ذلك فإننا عندما أخذنا نبحث عن ماهية العدالة وعما يكونه الرجل العادل، إن أمكن وجوده، وعن ماهية الظلم وما يكونه الظالم، إنما كنا نبحث عن ذلك كله لكي نهتدي إلى النموذج. فمهمتنا كانت تأمل هذين الرجلين، والتفكير في مدى سعادتهما أو شقائهما، لكي نصل إلى أن أشبه الناس بهما يلقى مصيرا قريبا كل القرب من مصيرهما أما إمكان تحقيق هذه النماذج بالفعل فذلك ما لم يدخل في نطاق مشروعنا”.

4- مفهوم الحق بين محاورة الجمهورية ومحاورة القوانين ببسياطة هي مفهوم “الحقLe droit” في محاورة القوانين، لا يرتبط بالدرجة الأولى ببراديغم العدالة، كما هو الأمر في محاورة الجمهورية، بل يرتبط بشكل مباشر بـالقوانين المنظمة للحياة الجماعية داخل المدينة.

ففي “محاورة الجمهورية” نرى أفلاطون وكأنه –إذا جاز لنا القول-يفترض خيرية الإنسان، في مقابل شريته أو قصوره المفترض في القوانين، والذي لا يُقوَّم إلا بواسطة التشريعات الصالحة.

إن الإنسان الخيّر في مدينة الجمهورية لا يحتاج إلى قوانين بل يحتاج فقط إلى معرفة بنياته النفسية الثلاث المنعكسة في صورة مجتمع في طبقاته الثلاث، مع وجوب أن تحترم كل طبقة عملها دون التدخل في عمل الغير لتتحقق الفضيلة الضامنة لاستمرار الإنسان الخير في المدينة.

لكن كيف يمكن ضمان إلتزام كل طبقة وكل فرد بالعمل المنوط به دون التدخل في عمل الغير؟ هذا ما لم تجب عنه “الجمهورية”، فكان ذلك هو موضوع “محاورة القوانين، التي لم تقف عند القول بـ”يجب أن تفعل كذا”، بل تعدته إلى صياغة أكثر وضوحا، “إذا فعلت كذا فإنك ستعاقب أو تجازا بكذا”. إن ما يميز الصيغة الأولى عن الثانية، هو أن الأولى تشير إلى ما ينبغي أن يكون، أي إلى ما لم يتحقق بعد، أما الثانية فهي تشير إلى ما وقع في الماضي أو الحاضر.

وهذا ما يجعلنا نستنتج أن انتقال أفلاطون من مدينة الجمهورية إلى مدينة القوانين، هو انتقال في الحقيقة من عالم المثل إلى عالم الواقع. فإذا كان العالم الأول كامل (إلهي)، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى توجيهات أو إصلاح، فإن العالم الثاني ولقصوره وعدم كماله فهو يحتاج إلى توجيهات وتقويمات مستمرة، وهو نفسه الدور الذي تقوم به التشريعات والقوانين.

ولعل هذا ما يؤكده أفلاطون في الكتاب التاسع من محاورة القوانين حيث يقول وهو يناقش جزئيات الشرائع التي ينبغي العمل بها: “إن الأمر يحتاج إلى تريث وتفكير في شؤون الناس على نهج إنساني محايث لما يعيشونه في زمنهم هذا، ذلك لأننا لسنا في مركز مشرعي العصور السالفة، التي كانت تشكل قوانينها لعصر أبطال كانوا إذا جاز تصديق الروايات الشائعة أبناء آلهة وكانت قوانينهم تُشن لرجال من نفس النسب السماوي إننا لسنا غير بشر، والقوانين الذي نفترضه إنما هو من أجل الزلل الإنساني” إن محاورة القوانين إذا هي عبارة عن انتقال من مدينة الأبطال إلى مدينة الإنسان، فكون هذا العالم الذي نعيش فيه عالم إنساني فينبغي أن تكون القوانين التي تحكمه قوانين بشرية هي الأخرى.

لائحــــــــــــة المراجــــــــــــــــع المعتمدة

أفلاطون، الجمهورية، ترجمة ودراسة، فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2004.

أفلاطون، القوانين، ترجمه من اليونانيةإلى الإنجليزية د. تيلور، نقله إلى العربية محمد حسن ظاظا، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1986.

أحمد المنياوي، جمهورية أفلاطون، مراجعة طه عبدالرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، دمشق، القاهرة، الطبعةالأولى، 2010.

الدكتور مصطفى النشار، مكانة المرأة في فلسفة أفلاطون قراءة في محاورتي “الجمهورية والقوانين”، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة.

رمزي نجار، الفلسفة العربية عبر التاريخ، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى، 1977.

محمد هاشمي، المهاجر في مواجهة الامتناعات النظرية، مجلة يتفكرون، العدد 11، 2017. .

محمد هاشمي، تحولات الأخلاق والساسة في الفكر اليوناني: من مدينة الأبطال إلى مدينة المواطنين، مجلة يتفكرون، العدد السادس، 2015.

  بقلم الباحثة في الفلسفة / عائشة بليلط

التعليقات مغلقة.