أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

“إرادة الحياة ضد سطوة الموت”، قراءة في مجموعة “سجناء بلا تهم” للمبدعة رشيدة القدميري

“إرادة الحياة ضد سطوة الموت”، قراءة في مجموعة “سجناء بلا تهم”

للمبدعة رشيدة القدميري 

بقلم المبدع: عبد الرحيم التدلاوي

 

وأنت تقرأ مجموعة “سجناء بلا تهم”، ستدرك بما لا يدع مجالا لأي شك أن المبدعة تفتح نوافذ أمل في حياة صارت كئيبة بفعل حصار طارئ خنق الأنفس وأورثها عللا نفسية واجتماعية كثيرة؛ لقد سعت المبدعة إلى فتح كوى صغيرة على الحياة مما يؤكد انتصارها للحياة على حساب الموت، فلم تركن شخصياتها إلى اليأس والقنوط وبالتالي رفع راية الاستسلام، بل مارست حقها الطبيعي بأشكال مختلفة فيها تحايل على هذا الوحش الرابض على مدينة طيبة؛ وطيبة، هنا، هي كل الأرض، لتنفلت من قبضته، سواء بالخيال أو بالممارسة الفعلية عبر وسائل التواصل بمختلف أنواعها.

 

سجناء بلا تهم، للمبدعة رشيدة القدميري

نعم للحياة:

ليست عنوانا لقصة واحدة فقط بل عنوانا جامعا لرغبة جامحة في الحياة ضد جائحة تصنع الموت كل لحظة؛ جائحة تعلم الناس فن التعامل ورقي الفعل، وجمال التواصل الإنساني، وتدفع إلى جعل الحب أس كل بناء كيفما كان نوعه.

ترصد المجموعة من خلال مجمل نصوصها العلاقة المتوترة بين الذات والعالم؛ الذات سجينة رعبها تبحث عن منافذ نجاة أو أمل. وواقع عنيد لا يزيد إلا تأزما، ويضاعف من آلام الذات، ويضيق فرص نجاتها. نلحظ هذا التوتر العالي في كل القصص، كما في قصة “نعم للحياة” التي تقول فيها الساردة معبرة عن حزنها العميق جراء جائحة سجنت الناس من غير ذنب ولا تهمة، وأرعبتهم بأخبار الموت المطوق لهم:

“..لا أجد سوى أخبار الموت وبلاغات إغلاق الدول لحدودها، فيضيق صدري،

يتملكني القلق، ويستبد بي وسواس تعقيم كل شيء ألمسه، أو يقتنيه

زوجي، أو حتى أمر بقربه” ص11.

هناك تفاعل مر بين رغبة الذات في الحياة بالاستمتاع بلذائذها، وبين واقع يحمل أخبار الموت كل لحظة، الأمر الذي ينعكس سلبا على الذات، لدرجة تصاب بوساوس عدوى الفيروس. والشعور بالخوف على الأبناء، والإحساس بالملل والضجر. تسعى الساردة وهي في قمة يأسها من خلق ظروف مخففة بالنكت أو بوصفات الطبخ، لكن الواقع العنيد لا يزيد الذات إلا تشاؤما.

في الأثناء، تجد في وسائل التواصل الحديثة فرصة للخروج من الضيق بالاتصال بالأحبة أو بقراءة منشورات الأصدقاء وما يستجد من أخبار حول الجائحة؛ وكانت فرصتها لمتابعة حالة طفل مصاب لم يفقد رصيد تفاؤله، فكان بالنسبة لها درسا أمدها بالطاقة على مواصلة الحياة.

تقول الساردة عنه وهي تتابع حركاته وسكناته أثناء توجهه إلى سيارة الإسعاف ومن ثم إلى المستشفى رافعا تحدي الموت من اجل الحياة:

“لم ينحن، لم يصرخ، لم يبك، بقي شامخا كنخلة تقاوم الرياح” ص 14.

لعل تسمية القصة بما انتهت إليه ينهض دليلا على إرادة الحياة التي تتغلب على إرادة الموت، أو لنقل إن غريزة الإيروس تتغلب على غريزة الثاناتوس، وهذا الاختيار كأنه رغبة لا واعية لتطويق الجائحة بدل أن تطوق الذات، وبتطويقها يتم ترويضها وبالتالي التغلب عليها.

في قصة “جحود”

نجد الجائحة ملازمة للشخصيات، ومعبرة عن موقفها من الفيروس، لكن الساردة بضمير الغائب تتخذ علاقة الابن بأمه رحمة طريقا لعرض السلوكات المريضة التي تفتك بالروح؛ فالجحود أكثر ضررا من كوفيد اللعين، بل كان هذا الكائن المجهري عنصرا فعالا في فضح بعض الأبناء الذين يجدون الأعذار في قطع الاتصال بآبائهم؛ وهنا الأم العجوز التي تعاني شتى الأمراض بصبر وجلد، وحتى الفيروس تحملته لكن جحود ابنها كان الضربة القاضية التي حطمت مناعتها فاستقبلت الموت بأحضانها لأنه يمثل لها الخلاص من عالم جاحد.

وعلى عكس القصة الأولى، نجد غريزة الموت تتغلب على غريزة الحياة لا لشيء إلا لأن الذات تشعر أنها صارت عديمة الجدوى.

أما قصة “لعنة الخوف”

فقد اعتمدت الساردة لغة السخرية من الجائحة وما ولدته في النفوس من خوف مزمن جعلت بعض شخصيات القصة تعاني إرهابا فظيعا وهي تخرج من منزلها لجلب بعض الأغراض كان يمكن التخلي عنها، وتزيد درجة السخرية حين يسعل بطل النص وهو في دكان بائع الخضر حيث انفض من حوله الجمع وكأنه صار خطرا ينبغي تجنبه، أو حاولا للموت. وتضيف الساردة مزيدا من السخرية حين تجد أن ما جلبه زوجها ناقصا فتدعوه إلى الخروج مجددا لجلبه وبخاصة الملح، فهو أس الطعام، وهو أس القصة.

ما يثير في القصص الثلاث أن الأولى جاءت بضمير المتكلم تحكي فيه الشخصية أثر الجائحة في حياتها الفردية والعائلية، والثانية بضمير المتكلم تسرد الشخصية الرئيسة هواجسها، وترصد في الآن ذاته شخصية مختلفة عنها، فيما الثالثة جاءت بضمير الغائب؛ أي الضمير المحايد الذي يرصد الواقع بعين دقيقة تعبر عن موقفها الرافض للفعل المنكر، وتنويع الضمير استتبعه تنويع موضوعات القصص، وبالتالي وجهات النظر.

وبضمير الغائب تقوم الساردة برصد أثر الجائحة على فتاة ضحت بكل شيء بالمهجر من أجل كسب القوت والعودة إلى أرض الوطن لاحتضان أم كرست حياتها لابنتها بعد فقد الأب.

كانت الفتاة تمني نفسها بمعانقة أمها واصطحابها إلى الطبيب، وإشباع بعض رغباتها البسيطة بيد أن الفيروس اللعين فرض شروط التباعد فلم تحقق الفتاة المحلوم به وبقيت بعيدة رغم قربها عن أمها، فلا هي عانقتها ولا هي اصطحبتها إلى الطبيب. والعطلة تتآكل، وحلم النوم بحضن الوالدة يزداد ابتعادا.

في هذه القصة نجد موضوع علاقة الأبناء بآبائهم، ففي الأولى جحود، وفي هذه برور ووفاء.

منظور واحد للساردة هو قضية البرور أو الجحود، وموقفان مختلفان حوله؛ هما موقف النقد والرفض والإدانة، وموقف القبول والتشجيع والترحيب. مواقف تعبر عن رؤية السارد ومن خلاله المبدعة للواقع، وكيف ينبغي أن يكون.

صحيح أن قضية الجائحة هي الناظم لكل قصص المجموعة، تبين آثارها في الشخصيات وتسبر نفوسهم وما يحملونه من خوف، وفي علاقاتها فيما بينها، لكن تلك الجائحة كانت فرصة لرصد تفاعل الناس في ما بينهم، وكيف يتعاملون مع مرض حير العلماء، وحجز الناس بلا تهم، لقد تباينت مواقفهم تجاه الآخر؛ قريبا أو بعيدا، وظهرت حقيقتها العارية.

يقرأه الاخرون
السيرة الذاتية د- شعيب سايح عضو المكتب التنفيذي بمجلس الكتاب…

22 نوفمبر 2021
في حضرة الليل المسجى..نثر بقلم همام السوري

13 أكتوبر 2021
وبضمير الغائب تنقل لنا الساردة في قصة “النقطة التي أفاضت الكأس” ص 32،

العلاقة المتوترة بين زوجين، جمع بينهما حب خادع، كان ضحيته الزوجة التي انخدعت فرسمت لنفسها حياة سعيدة مع زوج أظهر لها حسن نية سرعان ما تبين أنها زائفة، إذ صار وحشا يعتدي عليها واستمر على هذا النهج رغم أن صار أبا، لم تشتك ولم تبح لوالديها بآلامها بناء على نصيحة صديقتها، لكن ظهور الفيروس اللعين كان نعمة ربانية أنقذها من محنتها بعد أن قر عزمها على ترك الزوج والاحتماء بوالديها، فقد يكون الهلاك بالفيروس أرحم من الموت على يد الزوج كما صرحت لأبيها في خاتمة القصة.

فإذا كانت الجائحة وبالا ونقمة على معظم شخصيات العمل القصصي فإنها، في هذه القصة، كانت نعمة وخلاصا. فبعض البلاء أقل قسوة من بعضه الآخر، ولا يداوي المر إلا الأمر منه.

هكذا تأتي الجائحة كالسيل الجارف يحملها من عشها غير الدافئ إلى حضن عاشت فيه عزيزة ومكرمة، وينقذها من حياة مترعة بالألم، ومن عش شبيه بالقبر يدفن السعادة والطموح.

لكن الجائحة وبالرغم من جبروتها وغموضها كانت سببا في تحريك المخيلة، وجعلها سلاح فرح في وجه الموت؛ فالخيال، كما في قصة “ربيع مؤجل” ص39، أقوى بكثير من الإرادة. فمن خلال الحوار الذي دار بين منال الفنانة التشكيلية وأحد الشبان العاشقين للفن، سندرك أن الفن بخاصة والإبداع بعامة هو المأوى الذي تحتمي به الذات، وتستمد طاقتها على ممارسة الحياة. فاللوحة التي رسمتها منال وكانت مدار الحوار تعبر عن هذا البعد، تقول الرسامة بهذا الخصوص:

لا نملك سوى الخيال نحتمي به من الدعاء، ندون به همس الفراغ، لنتجاوز سياج الفزع، وسجن الجدران ص42.

إن الخيال إكسير الحياة، وضماد الجراح، وفاتح نوافذ الفرح والأمل.

لقد كانت غاية الفنانة من الرسم بعامة، واللوحة مدار الحوار بخاصة لكي تنتصر الحياة على الوباء.

هكذا نجد أن الجائحة لم تكسر إرادة الحياة لدى الإنسان. ورغم أنها تطوق المجموعة من غلافيها؛ الأمامي والخلفي، ومن خلال العديد من عناوين قصصها، فلم تستطع تقييد الخيال، ولا تحطيم الإرادة، ولا التشوق للحياة؛ لقد كانت رغبة الإنسان في ممارسة إرادة الحياة أقوى وأمضى.

وتتابع الساردة تنويع الضمائر وزوايا النظر بحيث تشعر وكأنها تبغي الإحاطة بالجائحة من كل الجوانب للتغلب عليها، فالقصص تعتمد ضمير المتكلم مرة والغائب ثانية، مرة تجعل القصة شهادة حية، وثانية تنظر إلى الموضوع بحيادية وكأنها تترك لنا حيز قراءتها بنظرتنا الخاصة.

هذا الانتقال بين الضمائر وتنويعها يجعلنا نسافر بين رؤية الداخل ورؤية الخارج، نتنقل بين الشهادة والموضوعية، نترحل بين عوالم الذات من الداخل، وعوالم الواقع الخارجي.

فقصة “سنة بفصل واحد” ص 45، نجد ضمير المتكلم حيث تحكي الساردة فيها مشاعرها بين لحظتين متناقضتين، لحظة فرح ترتبط بزمن ولى، ولحظة حزن ترتبط بالحاضر الذي لونته الجائحة بسوادها، وكيف أثرت في نفسيتها، وفرضت عليها عزلة قاسية، بيد أنها وجدت نفسها تستعيد ذكريات فرحها قبل صاعقة المرض، لتستمد منها العون، متأكدة بذلك رغبتها في مواصلة الحياة رغم ضيق المكان، تقول: لذا قررت ألا أطيل التحديق في الخيبات، وأبقى حبيسة قفص الخوف، فهناك في الأفق حلم ينتظرني، وكلي إصرار على التأقلم مع نمط عيش سكان الأرض الجديد الذي فرضته الجائحة. ص50.

الجميل أن الجائحة صيرت المكان الأليف عدوا، لكن الذات تعيد بناءه أو ترميمه من جديد، ليصير أليفا وغير عدواني. مقابل ذلك يصير الفضاء العام والمفتوح حلما يراود الشخصيات وتسعى إلى ولوجه حتى تتغلب على الجائحة، بل ويصير متخيلا أو مستعادا بالمخيلة. إن الذات وهي تقوم بذلك ترمي إلى الاستمتاع بالحياة، تقول الساردة بهذا الشأن:

..والاستمتاع بكل لحظة من أيامي بعد أن عرفت قيمة الحياة. وكلما ضاق صدري أنر إلى الأعلى، حيث المدد الإلهي، وقد اختزلت أحلامي في أمنية واحدة أتركها تشرق في كل دعواتي: “أن نعود في القريب العاجل إلى حياتنا العادية، فتتسع حقولنا لخضرة الربيع، وترتوي أرواحنا من دهشة لقاء الأحباب بعد ظمإ الغياب..” ص 50.

ولئن كانت الجائحة ضارة، فرب ضارة نافعة، فهاهي الذوات تكتشف قيمة الحياة، وأهمية صرفها في المحبة والتعلق بالأحباب بدل إهدارها في التافه من الأقوال والأفعال. فقد تكون السنة بفصل واحد، لكن رغبة الساردة، ومن خلالها إرادة الإنسان، قادرة على تلوينها بتعدد الفصول.

أما في قصة “امتحان” والتي تسرد بضمير المتكلم الذكر، فإن أجواء الحزن تظل مخيمة على الأنفس بعد حرمتها الجائحة من ممارسة حياتها العادية، وبخاصة التعلم الذي صار عن بعد؛ بارد وجاف، لتصير الحياة بهذا المرض اللعين امتحانا قاسيا، وبخاصة لمن يعيشون ظروفا قاسية تتطلب منهم التقشف بعد أن صار القرض واحدا من أفراد الأسرة. قصة لم تفتح كوة للحياة، بل بقيت تعيش حلكة الجائحة غير قادرة على تلمس الضوء.

ويواصل ضمير المتكلم رحلة الحفر في نفوس الشخصيات سواء المتكلمة أو المخاطبة أو الغائبة، كما في قصة “رب ضارة نافعة” ص72 وهي القصة التي اعتمدت الحوار بشكل كبير في بنائها ومن خلاله نتبين أن الجائحة لم تكن شرا بالكامل، بل حملت معها إيجابيات عدة؛ منها أنها جعلتنا نلتفت إلى الأشياء الصغيرة التي كنا نهملها ولا نلقي بالا إليها، لقد كانت درسا للإنسان ليهتم بالإنسان وبطبيعته لا يلوثها؛ ففعل الإساءة للطبيعة دفعها إلى الانتقام، وما هذا الفيروس إلا أحد أدواة غضبها على الإنسان.

فمن حكم هذه الجائحة من زاوية نظر الأم وهي تحاور ابنها، أنها جعلتنا نشعر بضعفنا، وفرضت علينا تغيير تصرفاتنا، والاعتناء بالطبيعة وبالإنسان معا.

على سبيل الختم:

لقد صيغت المجموعة بحرفية، واعتمدت لغة مشرقة تنحو باتجاه الشعر، وتعتمد صورا بلاغية تغوص في أعماق الشخصيات تجلو مخاوفها، وأنماط تفكيرها، وردود أفعالها تجاه محيطها. وهذه اللغة الشاعرية لم تكن زادا ثقيلا على معدة السرد، تصيبه بعسر حركة، بل كانت إضاءة للنفوس المرتعبة من الجائحة:

وكمثال على ذلك: أزهر الصقيع على ثغر المساء رعشة سكون..كسرت جذع الصبر، أيقظت طيور الحزن..ممتطية صهوة الأرق..هاجرت أسرابا واستقرت بعيني سمير، وسؤال واحد يمزق أحشاءه وهو يقف ملء عجزه: “ما بال هذا الليل أصبح أطول؟” ص80.

لقد عانى سمير من المرض، وزادت محنته وهو يحمل نفسه مسؤولية نقل العدوى لأسرته الصغيرة، وتضاعفت بإجهاض الزوجة بعد أن خنقها الفيروس اللعين.

كما أنها اعتمدت تقنية المقابلة بين الداخل والخارج وبين الأنا والآخر، وبين الماضي والحاضر، وتم اعتماد الجائحة لقراءة المجتمع الذي منه استلهمت قصصها؛ فالإضمامة كانت ذات منحى اجتماعي نقدي، اهتمت بالعلاقات بين الشخصيات؛ الأزواج، والأبناء في علاقتهم بالآباء، مشيرة إلى قضية مهمة تتعلق بالعقم لدى النساء والرجال، واختلاف المواقف تجاه هذه القضية المثيرة للجدل.

ما يثير الانتباه كون المبدعة وهي تشغل الجائحة كعنصر ناظم، أنها لم تستسلم لليأس، ولم تغلق منافذ الرجاء، بل كانت صحبة شخصياتها حاملة لإرادة الحياة، ومنتصرة لحبها.

**

مجموعة “سجناء بلا تهم” للمبدعة رشيدة القدميري صادرة عن دار القرويين للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى سنة2021.

التعليقات مغلقة.