جريدة أصوات: بقلم الدكتورة مريم آيت أحمد
مجتمع المعرفة، حل الزمن المابعد كوروني بكل ثقله محل المجتمع التقليدي الذي يتعلم استخدام تقنية المعلومات والاتصالات، ولعل أزمة هجرة الكفاءات واستقطابها، لعجز ميزانيات تمويلات البحث العلمي ومراكز الدراسات في بلدنا، تدفعنا اليوم للحديث عن آفاق مستقبل مجتمع ينوي الدخول لعالم المعرفة، بينما تفتقر مختبراته ومراكزه البحثية لأدنى أساسيات الدعم المادي، يتم من خلالها تجميع واستقطاب الجماعة العلمية المعرفية، نملك كفاءات وطنية جاهزة لتفريغ عطاءاتها، قدراتها ومهاراتها، نملك مخزون من كفاءات وعقول قابلة للتمكين المعرفي، قادة على تأهيل الرأسمال البشري والدخول بإنجازاتها في عالم مقاولات مشاريع الأفكار إلى سوق المنافسات العالمية.
العالم الجديد يخاطبنا بلغة سوق جديد تمت هندسة مشاريع إنتاجه وفق منظومة جديدة تحتكم إلى إنتاج مشاريع الذكاء المعرفي و الاستثمار المقاولاتي العلمي بتكوين أطر قادرة على إنتاج المعرفة لا استهلاكها.
بمعنى أصح نحن في حاجة ملحة للتحول من مجتمع المحفوظات و الكتاب الناسخين للعلوم، إلى مجتمع يوفر محاضن ذكية للعقول، يحفزها على الإبداع، يحميها من الضياع، اليوم وأمام جائحة كورونا، تبين لنا بجلاء الفرق بين مجتمع يستورد المهارات، يوفر لها آليات امتلاك وصناعة المعرفة يطوربها مخزون ثروته الاقتصادية، وبين مجتمع يصدر المخزون الخام لرأسماله البشري ليعيد استيراده معلبا بميزانيات ضخمة.
نتحدث اليوم عن مجتمع معرفة ، فهل خطونا نحو عتبته ؟ أم أننا لم نقدر بعد القيمة الحقيقية لمعاني الاستثمار في إستراتيجية رهانات مجتمع المعرفة لتوضع على لائحة أولويات برامجنا الحكومية.
المجتمع المعرفي الذي نطمح ولوجه قد يستدعي منا حزم النفير الاجتماعي، كجماعة وطنية معرفية، توفر البنى التحتية الأساسية التي من أولى أولوياتها، الاستثمار في العقول ومقاولات الأفكار لرأسمانا البشري.
تدبير أزمة مابعد الجائحة يقتضي إعادة النظر في استثمار المقاولة المعرفية تقدير قيمتها جعلها ضمن برامج خطط تطبيقية الإنفاق والدعم والمواكبة.
مجتمع المعرفة الذي نريد الاستثمار فيه اليوم لن يتحدد مساره الفعلي إلا بإبرام تعاقد وطني، داخل سقف سلم أولويات الزمن المابعدكورني، وهي أولويات معرفية تحتكم إلى مقومات الأمن العلمي، وحماية العقول والكفاءات المغربية العالمة من الهجرة، أو العبث الدولي.
أولويات الأمن المعرفي تحتاج إلى دعم المختبرات البحثية وتقارير مراكز الأبحاث المستقبلية think thank ، وحمايتها كمخزون أمن قومي، بما تحدثه على المستوى القريب والمتوسط والبعيد،من تأثيرات قوية لتنمية الوطن.الأولويات تقتضي توفير فرص التكافئ للمهارات الإبداعية والخبرات الكفاءاتية الوطنية المتراكمة، بدل إبعادها بالهجرة القسرية، وتقديمها لتوظيف خبراتها على طبق من ذهب لدول أجنبية لم تنفق على مسار تعليمها.
بالأمس عشنا نموذجا حيا لمحطات تعيين المغربي الدكتور منصف السلاوي، مستشارا أولا للرئيس ترامب، ضمن الفريق الخاص بإيجاد اللقاح، وبذالك قدمنا كفاءة وطنية جاهزة، درسناها في مدارسنا ثانوياتنا، هدية لأمريكا، تستفيد منها في حل تركيبة أعقد فيروس في القرن.
وكمثل الدكتور منصف ممن تم إقصاؤهم داخل مدرجاتهم الجامعية، داخل مختبرات بحثهم الأولي داخل مؤسساتهم، كثر أظن أنه آن الأوان لاستيعاب درس الجائحة، وسنحتاج لقرار أصعب في تدبير مآلات مستقبل ما بعدها ،بمصالحة حقيقية مع منظومة البحث العلمي ،تنزل من المستوى النظري الى التطبيقي العملي، في رصد استعجالي لميزانيات تحفز كفاءات مغربية مهمشة، كانت قد أعدت نفسها للعبو هذه الميزانيات ماهي إلا أولويات ستقلص خسارة صادرات المغرب من مخزون رأسماله البشري، لتقوي استثمارات ضخمة، قد نجنيها من واردات ربحية، ضمن منافسات سوق أسلحة ذكية ستحكم مستقبل “رأسمالية الكوارث الجديدة ”
“الاستبداديات الاقتصادية” لن تقف عن التسلط، وتجار “الحروب البيولوجية” لن يغيروا من منتجات رأسمال أرباحهم، بعد درس كورونا الذي أثبت أن الدولة القومية هي القادرة على تحدي أزماتها بمقوماتها، بوسائلها، وإمكاناتها. فهل بهكذا تدبير موارد وميزانيات، سنتمكن من تقويم أو هيكلة الاستثمار في الرأسمال البشري المغربي المابعد كوروني؟
اليوم تغيرت منظومة الصراع الدولي، لم يعد الاستباق نحو ترسانة التسلح النووي هو هاجس القوى العظمى، مستقبل الحروب الجرثومية الصامتة، سيركز على الاتجار في العقول ومقاومة الحروب الوبائية الجديدة بسلاح تكنولوجيا توظيف الذكاءات الاصطناعية في علم الأوبئة الوقائي.
القيادات العالمية تتسابق لاستقطاب عقولنا، ولعل منصف السلاوي من النماذج المحرجة لكفاءة مغربية، تم إقصاؤها من إلقاء محاضرات مجانية بجامعات مغربية .يتم اليوم التسابق لاستقطابها من قوى القطب الأوحد! الأمر الذي يدعونا حقيقة إلى مراجعة واقع سيكولوجي مجتمعي، تحكمه منظومة حقد صلبة، ينبغي تفكيك عناصرها السوسيو-سيكولوجية، بما تحمله من وباء مدمر لكل إنجاز إبداع، أوذكاء، عقلية وقفت لأزمنة طويلة، على أبواب جيتوهات مغلقة الأبواب، ألغت أولوية مصلحة الوطن، وتناست الدرس الوطني، في بناء العقول لتشبع نهم أنانية معدية، يصعب تفكيك مداخلها.
مشكلة حرب الكفاءات، في بلدانا هي معضلة أنانية فردانية مجانية، بتحيزها الجزئي والشمولي، المعلن والصامت، الحاضر و الغائب، تجدها في شتى الحقول المعرفية والميدانية البحثية، عطلت بتأثيراتها ثروة مغربية هائلة، عانت في صمت إلى أن هجرت قسرا لتشق طريق نجاح، في بيئة السلم الذكائي لمجتمعات المعرفة ؟! أظن أن الطريق أصبح مرسوما، للحزم في خط دفاع قوي، يجمع كفاءات المغرب المتعددة التخصصات، والمستعدة للعطاء بتفاني حبا لهذا البلد، خط يجمع الجماعة المعرفية المتفرقة، يوحدها داخل كثلة مشروع تنموي حقيقي، يستثمر في العقول، ويبني اقتصاديات معرفية منتجة، بذكاءات متعددة ،تستجيب لسوق الأفكار المقاولاتية المستقبلية، التي ستنعش استثماراتنا في تطوير البنى التحتية لمنتج الذكاء المعرفي، تزامنا مع بنى اللإسمنت الصلب.
المستقبل الآن يتشكل ضمن خارطة طريق جديدة، تهندس لصناعة مقاولات ترتكز على عالم أفكار عالم تكنولوجيا المعلومات، سباق الذكاءات الصناعية في الحروب المستقبلية الجديدة، أسلحة دمار العدوى الوبائية، ومشاريع أسهم بوصات الأدوية و اللقاحات، هو عالم جديد سيكون رواده العلماء ، وسلاحه الاتجار في العقول،بعدما أثبت الجائحة ان ترسانة التسلح الحمائي القومي للأقطاب لم تفد في معالجة الأزمة، القادم بدأ من تجربة كوفيد 19 ليدخلنا إلى عوالم جديدة، تستقبل في مكاتب تسويقها، سلاح التسابق المعلوماتي الذكي، وتعيد إنتاجه وفق مصالح توازن مؤسساتها الوطنية.
علينا التفكير الجدي في الرهان المستقبلي، لعصر كوروني جديد سيتم فيه استيراد مشاريع عقول كفاءاتنا الجاهزة، ليستثمر فيها بأرباح ضخمة، ويعاد تصدير منتوجها داخل سوق منافسات عالمية. أظن أن المغرب بما حقق من ريادة شهدت بها دول غربية وعربية، في خطوات استباقية جريئة لتدبير أزمته مع توفير حماية وطنية وقائية إنتاجية، أبهرت العالم ( بصناعة الكمامات وأجهزة التنفس ورجال رشحوا لقيادة أزمة عالمية) قادر على المضي قدما نحو استثمار معرفي وطني، يخرجه من دائرة استهلاك، تداولات سوق العرض والطلب المستقلبية، إلى إنتاج يؤهله بوطنية رأسماله البشري الى عرض منتوجه ضمن أسهم تلك التداولات.
عن الدكتورة مريم آيت أحمد رئيسة مركز إنماء للأبحاث والدراسات المستقبلية
التعليقات مغلقة.