أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

إلا أنت (خواطر سريعة ليست للقراءة)

عبد الدين حمروش

تناول حقائبك. لا لتحزمها، وتُحكِم إغلاقها، بل لتفتحها. اِعبث بمُحتوياتها. افسح لها مكانا، لتتلاشى مع تيارات الريح، الغادية والرائحة دون أمل في هدنة. أنت، الآن، على مشارف ما بعد السِّتِّين. العام السادس عشر، في قصيدة حجازي، تَركْتَه قصيّا، تحت شجرة كبّاد، شاخت قبل أن تُنضج أول ليمونة مُرّة. الذكريات، لا داعي لأن تُرتِّبها، وفق تعاقب السنين، والفصول، والأيام. ذاكرتك في حالة إفلاس تام. حتى ملابسك، تخلَّص منها. اُخرج عاريا مثلما وضعتك أمك، أول مرة، واصرخ ملء البرّيّة.

كل الوجوه تنكشف أمامك بدون استئذان. لِمَ تتعب في أن تكون بعنوان بيت، وبطاقة تعريف؟ الشعراء خانوا قصائدهم، من أجل صورة مع ميكروفون أخرس. قصائدهم الباردة، أمام قطعة خبز بائتة تحوم حولها عيون جوعى، لن تسعفها ترجمات باهتة في ويكيبيديا. الأصدقاء اكتشفوا أن العودة إلى الذات، في محاولة خداع بائسة، أسنح فرصة لتوقيع معاهدة سلام مع الربّ الكافر. الجنود ألقوا أسلحتهم، بعد أن اكتشفوا أن أول طلقة بالماء، لا بالرصاص. الموت الممطر، كما هو الفراش مُمطر، تحت ضوء المصباح، أفضل حكاية لتروى.

لستَ مُلزما بانتظار موعد حاسم. كما لستَ مُلزما بإلقاء تحية، ولا إبداء سعة في حوار. هؤلاء المُرتّبون، في سلالم وعادات وهيآت وأبجديات وعاهات، لم تعد بحاجة إليهم. رُتبتك التي تستحق، في مقابل النياشين التي تشعُّ من تحت ياقاتهم، أن تسحقهم بنظراتك الأرجوانية. أو على الأقل، انزح بعيدا، مثلما تنزاح قشّة، لمجرد هبّة ريح. هؤلاء المُرتّبون، الساعون إلى احتلال كل مكان، في الساحة والتلفزيون والمنصة، ضع لهم خانات في مارستان قديم.

وأنت ترمق القطة تتمرغ فوق سطح ظهيرة، ضع سبابتك في ثقب. مثلا، في ثقب أنفك. اُترك رجليك تنبسطان في دعة. انتبه: السياط تتهاطل من فوق كأنها أشطان بئر. من كل صوب، إليك تُقبل نجمة، أو تُغافلك ضربة حظ. هذا العالم، آخر ما يشغله أحلام صغيرة تغلي في إبريق. دعك من كل الذين يأتون، ولا يأتون. أنت، الآن، منذور لصفقة خاسرة. ما مضى قد مضى، فلا تتطاول بعنقك أبعد من إطار النافذة. هناك قوافل المخدوعين، والخائبين، والأرامل، والمفلسين، تستعرض آهاتها الكظيمة في حفل رسمي بالشارع. لست وحدك.

إلا أنت. ارفع الوسطى، وانحرف بها تحت في وجه هؤلاء: الذين يغص بعاهاتهم وأعطابهم المشهد. انكمش مثل حلزون في قوقعة، ثم انفسح مثل عاصفة هادرة. ما مضى مضى، وما لم يأت لن يهلّ. ليس من شؤم ولا من تشاؤم. أطراف القتلى، فوق مائدة الطعام، تستبد بالصورة الآن.

 

التعليقات مغلقة.