جريدة أصوات : بقلم ذ عبد القادر كورزمي
ظلت العلاقة لفترة طويلة بين الطب والنسيج المجتمعي في جزء منها مأسورة لنظرة نمطية تتأرجح بين الواجب كسلوك أخلاقي يجد أساسه وجذوره على المستوى الرمزي في قسم أبو قراط والتشريعات الوضعية التي تنظم وتؤطر هده الممارسة بكل أشكالها ؛و ترسم حدودها وامتداداتها في الواقع ؛ بما يوفر شروط سلامة صحية مناسبة ولائقة للوافدين على المصحات الطبية ؛ و اسبيتارات الحومات والحواري داخل المدن وخارجها، ويجعلها رهينة بماهية ونوعية ومستوى الوسائل المستعملة والمتاحة في العلاج ؛ فيسكننا التفكير الممل و التأمل المزعج لما يجب أن تكون عليه هده المؤسسات ولما عساه يقوم به ملائكة الارض وهم يحلقون حول أسرة مرضاهم .
فالمخيال المجتمعي لا يرى في بياض البذلة الا أملًا في بياض الصحة وشفاء الجسد من أسقام وعلل تطارده وتنخر ما تبقى من عافيته ؛مادامت غريزة البقاء تتحكم في انفعالاتنا وسلوكاتنا و توجه أسلوب حياتنا اللاهث خلف سد ثقوب خلايا الجوع تارة و تحسين شكل الكتل اللحمية تارة اخرى وترميمها بمساحيق الجمال الخادع و التلوين المائع تارة اخرى و تضميد ندوب الأجساد التي عاثت فيها مشاريط الاطباء ؛ و أعادتها الى طبيعتها لتحتل مكانها بين الاصحاء ؛ أو نهرول بكل قوة نحو منافذ الخلاص من مآسي المرض و تداعياته وما يخلفه من كوارث اجتماعية ونفسية ؛ فحتى المرض يصبح محبباً عندما تعرف أن هناك أشخاصاً ينتظرون شفاءك كما ينتظرون العيد (أنطون تشيخوف) .
وبعد الشفاء نكون من ركاب الدرجة الأولى في قطار الحياة بعد الانتصار على ما يثخن الدات من جراح الاسقام بل و نتقدم صفوف الأحياء عندما نتخلص من وجع الاحساس بالألم وهي جزئيات قد لا نلتفت اليه ولا نعطيها بالغ اهتمام بمجرد ما نبرح أمكنة العلاج ويضحى المكان عبارة عن ذكرى مؤلمة نسقطها من رصيد الذكريات .
ولعلنا لا نفكر عميقا في حجم المهمة النبيلة و جلال الوظيفة ؛ مادامت عقولنا يستبد بها التفكير في التخلص من الداء فقط ؛ وهي أنانية مُفجعة بمنطق نفعي يدع الواقع يفرض على البشر معنى تحقيق مصلحة الدات ، ولم تكن هده الوظيفة لتستأثر باهتمامنا في عزلتنا الاجبارية ؛ والتي لم تفرض فقطا حجرا على الذات بل أجبرت العقول على ايقاف نبض وعيها و توجيه بوصلة نضجها في اتجاه فهم أن الطب هو الأساس ليس فقط لفهم الامراض وتشريحها و معالجة المصابين بها وإنما للتعامل معه كنبل و كقيمة انسانية عظيمة تتجاوز كل الوظائف والمهن وبمقدار حضوره كممارسة يومية يضعنا في مواجهة مباشرة مع المسؤولية الاخلاقية لتقدير قيمة ما يقوم به المنتسبون اليه أطباء وممرضون ومعاونون طبيون .
فنحن نأتي الى هدا العالم من رحم الجسد ونسقط في يد الطبيب كأول مستقبل أجنة بعذرية كاملة ؛ تفتح عيونها على ابتسامة مستقبِلها وهو يعمد الى قطع وريد الجنين ليربطه بوريد حياة جديدة؛ ويخرجه من دائرة الشك ليدخله الى دائرة اليقين ؛ يقين باستمرار أكسجين البقاء ومواصلة المسير .
لكن الملاحظ انه كلما تعمقت في تأمل ممارسة الطب كلما اكتشفت ان الطب هو الاب الروحي لكل المهن و الحاضن لبيولوجيا الالم و السكينة؛ فقد كان الطب معدوما فأوجده إبقراط، وميتا فأحياء جالينوس، ومشتتا فجمعه الرازي، وناقصا فأكمله بان سينا على حد قول الدكتور صبري الدمرداش.
و لم نكن لنكتشف قيمته الروحية وسموها بالصورة التي يتابعها العالم اليوم لولا هدا الفيروس الذي تسلل من غير استئذان الى خلايا البشر واحتل كل الأوطان ؛ فيروس أوقظ فينا كثيرا من القيم الاخلاقية وخلخل بنية تفكير الجاهل والعالم ؛ الغني كما الفقير ؛ المريض والقوي ؛ ونحن نترقب الارقام كما نحصي الآلام ؛ و نتسمر بلهفة نادرة أمام حواسيبنا وهواتفنا نحصي مواتنا ونعد أعداد الربح والخسارة ؛ هده المُثُل التي ماكان لها ان تستيقظ و تعزف في دواخلنا سمفونية الرغبة في مزيد من العيش لولا الرهاب الذي يخلفه كل يوم منظر التوابيت التي تحنط أجساد الموتى داخل دفئ الخشب بتوابل الفناء و الرحلة الى عالم آخر بلا عناء ؛عالم يستفز مشاعرنا بقوة و يضعنا أمام اختبار حقيقي لماهية وجودنا و ميتافيزيقا غيابنا المفاجئ بلسعة كورونا التي تبتسم في وجوهنا ابتسامة الاغتيال ؛ و تفتك بنا بلا فوضى للحواس ولا آهات أمام الناس .
لم يعد خافيا على أحد اليوم أن هدوء المدن في كل الاصقاع قد اتاح الفرصة لاختبار أنانية الانسانية في مدى جاهزيتها للامتنان لتلاميذ أبو قراط و أجبرها على استظهار صكوك الدعاء أمام حجم وعظمة إنجازاتها وهي تترصد الوباء وتجهز عليه في نكران ذات قل نظيره بين المهن .
هدا الوضع يجعلنا نسائل الذات ؛ حول معنى الانتحار ؛ و معنى التضحية والايثار عندما يتحزم الطبيب حزاما من الشجاعة الناسفة و يقتحم صالات مرضاه ليحرسهم بأناقة لافتة من زائر لا يرغب فيه أحد أو لم يحن اوانه بعد ؛ لكنه يتحدى أحيانًا لوثات صوفية تزور روحانيته بين الحين والاخر وتوهمه بمقاومة القدر ؛ فيضمد جراح معاناة هدا و يرمم شعور ذاك بفقد أمل في الشفاء ؛ فعلى عكس ما يعتقد البعض فالطبيب ليس مجرد موظف بمستشفى حكومي أو مصحة خاصة بل هو قديس مهنة غريبة تقترب من السحرولكنها بالغة القدم وتتعامل على الاقل مع أسرار الحياة والموت على حد تعبير الاستاذ محمد المنسي قنديل .
الطبيب هو هو رجل الأوضاع الانسانية بكل تجلياتها؛ و يستحق أن نحضن إنجازاته بكثير من الحب و الامتنان فهو في عمله يجمع ثنائية الليل والنهار بلا كلل ولا ملل؛ و يترنح بين اليأس والأمل وهو يداعب خلايا المرض ليجهز عليها ؛ يجمع بين مرارة الفشل في الانقاذ و نشوة الانتصار على الداء؛ وقد كشفت وضعية هدا الوباء وتداعياته ؛ مدى قصورنا في رسم اللوحة بقدر الجمال الذي ينتظره منا هدا الجيش الابيض ؛ و اضحى كل واحد منا ينبش في خبايا المهنة ما ظهر منها وما بطن و يلملم شعوره بالخيبة ازاء ما ضاع من زمن تأمل سمو مهنة جديرة بالاحترام المطلق.
لا نملك اليوم الا ان نشد بحرارة العاشق لأم المهن على أيدي هدا الجيش البطل الذي لم يفرط منذ بداية عام الالم في مشاريط الجراحة ؛ ولم يستسلم لغموض فيروس أتعبه بالتحول ؛ و ظل أسير حجر فرض عليه إقامة إجبارية بين جدران يتردد داخلها صدى مناجاة موتاه وأنين مرضاه ؛ فلا أعياه الانتظار و لا نال منه الم الاعتصار و لافاته قطار الانتصار .
إن الوقاية المثلى من المرض – برأي هيبوقراطس – تتمثل في الحياة ببساطة، وبحساب. فالحالة الصحية الجيدة هي الحالة الطبيعية لدى الإنسان. وعندما نقع مرضى، يكون قطار الطبيعة قد خرج عن سِكّته، بسبب فقدان توازن، جسدي أو روحي. – جوستاين غاردر.
ولاجل ذلك لم يرتبط تحسن الوضع الصحي على سبيل المثال بمدينة تطوان فقط بانضباط ساكنتها لقرارات مركزية او محلية بل ايضا بشموخ اطرها الطبية وصمودهم في مواجهة الوباء فقد كانت المهمة انتحارية وتتطلب قدرا كافيا من المهارة في حسن ادارة جناح الوباء ؛ و التحلي بأكبر قدر ممكن من الصبر و المثابرة من أجل مواكبة نفسية و اجتماعية للوافدين على المشفى ، و تهييئهم لتقبل القدر والتعايش مع فيروس كاميكاز ينفجر في كل بقاع العالم
واليوم أثبتت عافية مدينة تطوان كأهم حاضرة تتخلص من الوباء ؛ أن الارادة لا تبنيها أسوار اسبيتار ولا تقويها موجودات المكان؛ بل تحركها ثقافة التضحية وحب الممارسة؛ و الولاء لقسم الاداء؛ و عشق الوطن .
ذ عبد القادر كورزمي
التعليقات مغلقة.