عبد السلام انويكًة
لِما هي عليه من تأثير ومَهمَّة إخبار وتنوير وتأطير وتعبئة فضلا عما هو إعداد وتربية وتوجيه، لا تزال الاذاعة بموقع متميز رغم ما يسجل من زخم اعلام وتعدد آليات طبعت العقدين الأخيرين.
ويجمع رأي واسع من الدارسين المهتمين، أن الاذاعة ستظل ممتدة بحضور متجدد عابر رغم ما هو كائن من زمن رقمي وتدفق تقني واتساع لوعاء آليات تواصل. وأن فعل الاذاعة وتفاعلها سيظل مؤثثا لحياة الانسان، مع ما ينبغي من انفتاح على واقع ايقاع تكنولوجي سريع وانترنيت وشبكة تواصل اجتماعي وفضاء افتراضي. للإبقاء على الاذاعة حية ليس فقط لتجنب ما قد يحصل من بياض، انما اساسا لرمزية موقعها وخفة ظلها وقاعدة عشاقها.
ويرى عدد من الباحثين الاعلاميين أن استمرارية الاذاعة أمر بقدر هام من البعد الاستراتيجي، ذلك أنه من شأنها أن تسهم بخدمات اعلامية تعبوية رفيعة خلال فترات استثنائية في حال تعطل ما هو رقمي. وعليه، فزمن الاذاعة بخلاف ما يعتقد البعض لن يتوقف رغم ما يبدو من بدائل اتصال، لِما يطبعها من خاصية تأثير وقدرة تكيف مع كل تحول، بدليل ما تسجله من حضور واتساع تجارب عبر ما هو رقمي، ناهيك عن كون الاذاعة تعد اداة تواصلٍ اكثر قدرة على بلوغ كل الطيف، لِما يميزها من حيث محتواها وأداءها وجاذبيتها.
ولا شك أن الاذاعة لاتزال بتأثير معبر إن بدول الجنوب من خلال ما تسهم به من أدوار انمائية انسانية عدة، أو في دول متقدمة رغم ما هي عليه من تطور تقني وبدائل تواصل. ويسجل أن السينما ظلت قائمة رغم ظهور التليفزيون وهذا الأخير لا يزال حيا رغم ظهور الانترنت، فإن الاذاعة لن يتوقف ايقاعها ايضا بسبب ما هناك من أثير رقمي. ولعلها لا تزال بموقع خاص ضمن آليات الاتصال الحديثة وبدفئ لمستمع واسع، بل لا تزال أداة إخبار وتأطير وترفيه وحوار ورأي وتنوع رغم ما هناك من جديد وسائط وفضائيات وانترنيت.
وتعود بداية الاذاعة لمطلع القرن الماضي قبل أن تشهد ما شهدته من تطور، وبروز لمحطات هنا وهناك كانت ببصمات جمعت بين اعلام وقضايا ثقافة واقتصاد وفكر وفن وتنوير وتحسيس وتأطير للخيال، عبر سلطة أصوات وأدب وقوة تعبير وقرب واقناع ومواكبة وتغدية لروح وعقل معا. وعليه، ما أحوج العالم للإذاعة واستمراريتها في زمن تدفق قيم وحاجة لحوار ثقافات، تقوية لِما ينبغي من سلم وتضامن وتعايش وتسامح. بل الاذاعة بما هي عليه من تراكم، هي بحاجة لوقفة تأمل ومن ثمة وقفة اجلال واكبار لسلف اذاعي كان باسهامات رافعة لفائدة انسان وانسانية، ولخلف أيضا تحفيزا له لمزيد من العطاء والابداع والتجديد والتنوير. من اجل هذا وذاك جاءت فكرة الاحتفاء باليوم العالمي للإذاعة والذي اختير له الثالث عشر من فبراير كل سنة، احتفاء أقرته منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”، استحضارا ليس فقط لروح الاذاعة في العالم، بل ايضا تحقيق ما ينبغي من حضن واعتبار ودعم لهذه المؤسسة، في أفق دور أكثر أهمية لها في نماء وتطور وتواصل هذا العالم.
يذكر أن نشأة الصحافة المسموعة بالمغرب تعود لزمن الحماية وأن تجارب عمل الاذاعة تعود لعشرينات القرن الماضي، ومقابل ما سجل خلال فترة الثلاثينات من اقبال على جهاز المذياع بالمنطقة السلطانية الخاضعة للاحتلال الفرنسي، ظهر راديو طنجة بهذه المدينة التي كانت بوضع دولي آنذاك. مع أهمية الاشارة الى أن عدد اجهزة المذياع نهاية هذه الفترة على مستوى المنطقة التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي، بلغ حوالي خمسة وثلاثين ألف جهاز بنسبة 83 بالمائة في ملك الأوربيين و17 بالمائة في ملك المغاربة. موزعة كالتالي 41 بالمائة بمنطقة الدار البيضاء و18 بالمائة بمنطقة الرباط و5 بالمائة بمنطقة وجدة و9 بالمائة بمنطقة فاس و8 بالمائة بمنطقة مكناس و7 بالمائة بمنطقة مراكش و3 بالمائة بمنطقة القنيطرة، اضافة الى حوالي خمسمائة مذياع في منطقة الجديدة وحوالي تسعمائة في منطقة اسفي وحوالي سبعمائة في منطقة تازة وحوالي مائة في منطقة تافيلالت ثم ثمانين مذياعاً في منطقة الأطلس المتوسط. ويتعلق الأمر هنا بما هو مرخص ومصرح به فقط علماً أن بيع هذا الجهاز للمغاربة كان تحت رقابة سلطات الحماية، ويسجل أنه بقدر ما كان عليه المذياع من اقبال خلال هذه الفترة بقدر ما كان عليه مجال الاذاعة من تطور .
وحول طنجة، يسجل أن أول محطة للبث الاذاعي بها أنشأت عام 1936 وأن مجالها الدولي بداية اربعينات القرن الماضي تقاسمته محطات اذاعية عدة توقفت جميعها مع استقلال المغرب، باستثناء راديو طنجة الدولي آنذاك الذي أنشأه “هربرت روتليدج ساوثوورث” الصحافي الأمريكي في واشنطن بوست عام 1946، والذي كان ناطقاً بلغات عدة منها العربية فضلا عن حبه للحرية ودفاعه عنها. وقد تعمقت مكانة اذاعة طنجة هذه في وجدان المغاربة اثر حدث زيارة السلطان محمد بن يوسف رحمه الله لطنجة 1947، من خلال ما كانت عليه من مواكبة وبث على امواجها بما في ذلك الخطاب الملكي التاريخي. بل كانت اذاعة طنجة بأدوار وطنية جمعت بين تعبئة وتنديد بعزل سلطان البلاد 1953، والذي بعد عودته من منفاه زار مقرها في شتنبر1957، اعترافاً بما كانت عليه هذه المحطة من حس وطني عال واسهام في ملحمة الاستقلال. وعليه، كان الابقاء عليها وتأميمها سنة 1960 لتطبعها رمزية خاصة واستثناء جعلها بإيقاع وهيبة وتفاعل أكثر حرية، عبر ما انفتحت عليه منذ ستينات القرن الماضي من برامج وقضايا وطن ومجتمع عميقة.
التعليقات مغلقة.