عن موقع “تيل كيل”
يحيط القصر نفسه بسور سميك من الطقوس البروتوكولية التي لها وظيفة توطيد قدسية وشرعية سلطة الملكية بالمغرب. “تيل كيل” حاولت فك بعض رموز هذه الممارسات التي يعود بعضها إلى قرون مضت.
رغم قرار الملك محمد السادس تأجيل جميع الأنشطة والاحتفالات المرتبطة بعيد العرش هذه السنة بما فيها حفل الولاء- الذي يعتبر واسطة عقد هذه المناسبة- بسبب تفشي جائحة كورونا، فإن البروتوكول الخاص بدار المخزن يواصل نشاطه بكل ما يستدعيه من دهشئ وهيبة.
وهو مجموعة من الطقوس التي يكتنفها الكثير من الغموض وتتخطى العصور. يقول الباحث محمد الشيكر، صاحب العديد من المؤلفات بالعربية حول مسألة الدولة ودار المخزن، “يجب أن نعلم من الناحية التاريخية أن المغرب لم يعرف منذ 20 قرنا سوى مؤسسة واحدة هي الملكية، منذ الملوك الأمازيغ لـ’موريطانيا الطنجية’، بوخوس وجوبا الثاني وغيرهم. إذن جرى عبر القرون تراكم للطقوس التي أعطاها الزمان شكلا معينا. ولكن البروتوكول الملكي لم يتسارع سوى في عهد الدولة السعدية (1554-1636) والدولة العلوية (منذ 1668)”.
ولكن من أين جاءت الطقوس الحالية للبروتوكول؟
“من الأمبراطورية العثمانية”، يجيب الباحث المتخصص. فـ”السعديون استلهموا عددا من عادات السلاطين العثمانيين مثل تقبيل اليد، وما يواكب دخول وخروج السلطان، والألبسة المهيبة التي كان يرتدي… منذ القرن الخامس عشر والسادس عشر كان تأثير التقاليد العثمانية جليا بالمغرب، خاصة في عهد المنصور الذهبي (1578-1603)”.
بعد ذلك، واصل العلويون الاستلهام من البروتوكول التركي مضيفين إليه لمسات أندلسية وبريطانية. كما تم “استيراد” طقوس أخرى من العثمانيين، حسب محمد الشكير، منها تقبيل الأرض أمام السلطان علامة على التقدير والاحترام(…)
باختصار نحن مدينون في المغرب للسلاطين الأتراك بأسس البروتوكول وبالهيكلة المتشعبة للجهاز البروتوكولي.
كذلك جاءنا المكلفون بالمهام البروتوكولية بدار المخزن من عند الأتراك: قايد المشور، مثلا، أو الحاجب الملكي مرورا بـ”عبيد العافية”.. كل هؤلاء تم استلهامهم من الأتراك وتكييفهم مع السياق السياسي والديني للمملكة.
من “لْحَرْكَة” إلى “الموكب الملكي”
هذه الطقوس لم تتخفف مع مجيء الحماية، بل العكس هو الذي حدث. وقد لعب تقدير المقيم العام ليوطي للإسلام وحرصه على احترام التقاليد دورا كبيرا في تكريس تلك الطقوس. فهذا العسكري الفرنسي “كان يسعى إلى الحفاظ على السلطنة وإصلاحها في الآن ذاته”، يقول الأنثروبولوجي حسن رشيق.
إذن منذ مجيء ليوطي دخل البروتوكول عهد الحداثة بشكل كامل من خلال عدد من المميزات التي صارت مألوفة لدينا. ويوضح رشيق قائلا “في الماضي كان السلطان يعيش وحيدا، ولا يجب أن يرى من طرف الناس. ولا يلتقي سوى الحاجب الذي كان ينهض بمهمة الوسيط. كان يجب أن يتفادى الشمس، وهذا ما يفسر الحضور الدائم لتلك المظلة”. ولكن المقيم العام كسر هذا الانغلاق، و”دفع السلطان إلى الخروج من القصر، ليرى الشعب ويراه الشعب. فنظم له حفلات كبيرة لإظهاره أمام العموم.. زيارات إلى جنوب البلاد وإلى المناطق التي استتب فيها ‘الهدوء’. وأمر الضباط الفرنسيين بالحرص على حضور الحشود الهاتفة باسم السلطان خلال تنقلاته.
وفي ظرف سنين قليلة اختفت ‘لحركة’ و’المحلة’ إلى الأبد وحل مكانهما الموكب الملكي في حلته العصرية”. وتركت الجياد مكانها لموكب من سيارات المرسيدس وأنواع أخرى.
إذن تغير الزمن ولكن البروتوكول ظل صامدا. فالسلطان أخذ يزور المعارض ويحضر تدشين المدارس والمستشفيات ومنشآت أخرى من إنجاز الحماية. ويقول حسن رشيق: “في إطار هذه الأدوار الجديدة، قام السلطان مولاي يوسف بخرق أحد أعرق التابوهات. إذ في يوليوز 1926، عبر البحر بمناسبة زيارته إلى باريس حيث دشن مسجدا. وسيحرص ابنه محمد الخامس، الذي سيخلفه في 1927، على زيارة فرنسا كل عام”.
شيئا فشيئا، صار البروتوكول مفهوما لا يمكن فصله عن قدسية السلطة وشرعيتها. فهو مرتبط في الآن ذاته بالحقل الديني وبالعلاقات مع الفاعلين في اللعبة السياسية (الأحزاب).
في عهد محمد الخامس، انتقل البروتوكول الملكي من وضع سلبي إلى موقع نشط. فبعد أن كان السلطان يخضع له في البداية، بمبادرة من الإقامة العامة الفرنسية، وبعد أن عمل الفاعلون في الحركة الوطنية على إعادة توطيده، صار، شيئا فشيئا، سلاحا في يد محمد الخامس (حتى وإن لم يكن يلجأ إليه هذا الأخير سوى على مضض نظرا لتقواه وتواضعه).
ويقول الباحث السياسي عزيز شهير “كانت الأحزاب الوطنية تسعى إلى توحيد الأمة حول شخص السلطان. ثم استحوذت الملكية، التي كانت سعيدة بهذه الهدية، على هذا الرأسمال الديني بصفة فخرية. في تلك الفترة كان للبروتوكول الملكي مفهوم تراثي، بل واحتفالي فولكلوري. فبالنسبة إلى الرعايا يبدو الملك شخصا كاريزميا. وتذكروا هنا أنه في 1953، كان عدد من المغاربة مقتنعين بأنهم رأوا وجهه على القمر”.
في 1933، طالب الوطنيون من السلطات جعل يوم جلوس السلطان محمد بن يوسف على العرش عيدا وطنيا. وهكذا كان. وتم إحياء أول عيد للعرش في 18 نونبر 1933 بفاس. وانتهت الاحتفالات بإنشاد قصيدة لـ”محمد القري” بعنوان “سلطان الشباب”. وردد الحاضرون شعار “يحيى الملك” ورفعوا الأدعية من أجل البلاد. ويؤكد حسن رشيق أن هذه المناسبة “صارت فرصة لكي يوجه الوطنيون رسائل التهنئة إلى الملك. منذ تلك اللحظة أصبح محمد الخامس يسود ويحكم. وكان لهذا التحول البنيوي تداعيات على المستوى الإيديولوجي”.
ولكن في عهد الحسن الثاني، أصبح الاحتفال بعيد العرش مختلفا تماما. ويوضح المؤرخ نبيل ملين أن “الحسن الثاني هو صاحب الشكل الحالي من هذا الطقس. وورثه عنه خلفه محمد السادس بشكل كامل تقريبا، لأنه مازال يؤدي وظيفته الأساسية: التأكيد على مركزية الملكية وسموها. هذه الوظيفة بعيدة كل البعد عن الهدف الذي كان الوطنيون قد حددوه لعيد العرش”.
عهد الحسن الثاني.. تقبيل اليد والبيروقراطية صارا واجبين
لقد وظف الحسن الثاني البروتوكول لتوطيد السلطة الملكية. ويقول محمد الشيكر بهذا الخصوص “كان عليه مواجهة المعارضة والعسكريين. وبالتالي صار البروتوكول بالنسبة إليه وسيلة للإخضاع والسيطرة، فقد تغير السياق”. بعبارة أخرى، عمد الحسن الثاني إلى تكريس كل طقوس البروتوكول من خلال تحصينها بالبيروقراطية. في عهده صارت وزارة القصور والتشريفات والأوسمة تحتل مكانة أكبر ولها سلطة أوسع. وعهد بها إلى مولاي حفيظ العلوي، هذا الرجل القوي والمهاب الجانب الذي سيظل على رأسها طيلة ثلاثين سنة.
لقد صار للبروتوكول بعد آخر. وصار الاقتراب من الملك محفوفا بطقوس مرعية: تقبيل اليد، الانحناء (التبنديق)… إلخ. “لقد كان صارما جدا بخصوص التقيد بتقبيل اليد واحترام الطقوس الأخرى”، يقول محمد الشيكر(…)
لقد جعل الحسن الثاني من تقبيل اليد قاعدة صارمة في عهده، وعدم القيام بهذا الطقس يعتبر مسا بالمقدسات. ولم يكن يعفى منه سوى العلماء. وقد تجرأ بعض المعارضين على تجنب تقبيل يد الحسن الثاني كما هو الحال مع محمد بن سعيد أيت يدر، الذي رفض الامتثال لهذا الطقس في مناسبتين(…)
هو هو .. وأنا أنا
مع تولي محمد السادس الحكم، تغيرت الأمور. فقد ظل محافظا على البروتوكول مع التخفيف منه وتكييفه مع أسلوبه الحديث والمنفتح على المجتمع. ويضيف محمد الشيكر قائلا: “مع محمد السادس، لاحظنا تخفيفا من حدة تلك الطقوس. فالاحتفالات ومراسيم التشييد صارت مدتها أقصر. وعلى عكس والده، لم يكن يصر على تقبيل اليد. صحيح أن العسكريين مازالوا يقبلون يده، ولكن الملك أصبح أكثر مرونة مع السياسيين والفنانين بهذا الخصوص”.
في2005 لم يقم أعضاء وفد من “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” حظي باستقبال ملكي، بتقبيل يد العاهل المغربي. أثار هذا الأمر غضب المسؤولين .. ولم يتم بث حفل الاستقبال هذا في التلفزة. فتح هذا الحادث النفاش حول تقبيل اليد: هل هو أداة للإخضاع أم رمز للاحترام؟ “بالنسبة للناس، الأمر ليس صادما، بل طبيعي.
بالنسبة إليهم الأمر شبيه بتقبيل يد الأب او الفقيه.. فيه إبراز للهيبة والاحترام” يوضح محمد الشيكر الذي يضيف “هناك سببان يفسران هذا التخفيف: أولا، شخصية الملك القريب من الناس. ثانيا، السياق السياسي: الحسن الثاني كان عليه مواجهة المعارضة، محمد السادس، لا”.
في حديثه عن ابنه كان الحسن الثاني يقول “هو هو، وأنا أنا”. وزاد محمد السادس قائلا في حوار مع “باري ماتش” في 2004: ” الأسلوب مختلف، غير أن للبروتوكول المغربي خصوصيته. وأنا حريص على المحافظة على دقته وعلى كل قواعده. إنه إرث ثمين من الماضي (…) غير أنه يجب على البروتوكول أن يتماشى مع أسلوبي”. ومع ذلك لم يتم .
إلغاء تقبيل اليد لأن الضغط كبير داخل القصر.
ولكن التحول الكبير سيحدث خلال زواج الملك في 2002. فقد تم السماح لـ”للا سلمى” بالظهور أمام العموم بل وتمثيل الملك في بعض الاحتفالات. كما أن منحها لقب “أميرة” شكل ثورة حقيقة، فزوجة الملك لم يكن لها في السابق أي مكان في البروتوكول. بل وتمت دعوة بعض المجلات النسوية المغربية إلى القصر الملكي لإنجاز روبورتاجات حول الأسرة الملكية !
بيد أن هذا المنحى كان له جانبه السيء. ففي 2009، نشرت مجلة “تيل كيل” بالتعاون مع صحيفة لوموند الفرنسية، استطلاعا للرأي حول الملك. ورغم أن محمد السادس وطقس تقبيل اليد حظيا بتأييد كبير من طرف المشاركين في الاستطلاع، إلا أن السلطات حجزت العدد وقامت بإتلافه، والمبرر: لا يمكن وضع الملك موضع المقارنة في نظام ملكي”(…).
ويظل البروتوكول الملكي قائما. ولم يتغير جوهره كأداة لإضفاء الشرعية والقدسية على السلطة، ولكنه يحاول جاهدا التكيف مع العصر. ويبقى أن “بعض الممارسات، مثل تقبيل اليد، تبدو متجاوزة. في عهد العولمة والشبكات الاجتماعية، للصورة ثمن باهظ جدا.. وهذه الطقوس تعطي صورة سيئة للمغرب على المستوى الدولي” يقول محمد الشيكر ملخصا الوضع الحالي لبعض طقوس البروتوكول.
عن “تيل كيل” بتصرف
التعليقات مغلقة.