لا شيء في هذا الكون ينبض بالحياة دون بيئة حاضنة، فهي ذلك الفضاء الذي يحتضن الإنسان منذ ولادته إلى آخر نفسٍ يتنفسه، بل قبل وجوده وبعد رحيله.
البيئة ليست فقط هواءً يتنفسه الإنسان وماءً يشربه وأرضًا يسكنها، بل هي منظومة معقدة من التوازنات والتفاعلات والتنوعات التي تشكل نسيج الحياة. وعندما تُذكر البيئة، فإننا لا نقصد بذلكالأشجار والزهور فقط، بل يشمل الهواء، الماء، التربة، المناخ، الضوء، الصوت، الكائنات الحية وغير الحية وكل ما يحيط بالكائنات من عوامل تؤثر فيها وتتأثر بها.
في عمق الطبيعة، تتناغم مكونات البيئة بشكل مذهل. الهواء النقي يلامس أوراق الأشجار. والمطر يسقي التراب فتخرج الأرض خضرتها. والشمس تشرق فتنمو الحياة. والليل يهب الراحة. فيما تستمر الكائنات الحية في دوراتها البيولوجية الدقيقة. كل شيء في مكانه بتوازن دقيق يخضع لنظام طبيعي إلهي لا يعرف الفوضى.
البيئة تنقسم إلى بيئة طبيعية، وهي الأصل. وتشمل الغابات، الصحارى، الجبال، المحيطات، الأنهار، المناخ والطقس. وهي التي لم تتدخل فيها يد الإنسان بشكل مباشر.
وهناك بيئة صناعية، وهي التي أنشأها الإنسان بذكائه واحتياجاته. كالمصانع، المدن، الطرق، التكنولوجيا، المباني وشبكات الكهرباء والماء. وهي ضرورية لكنها كثيرًا ما تمثل مصدر التهديد الأكبر للبيئة الأصلية إذا غابت الحكمة والرؤية.
الهواء مكون أساسي لا يمكن للإنسان الاستغناء عنه. لكن التلوث الصناعي وانبعاثات السيارات واحتراق الوقود الأحفوري جعله محمّلًا بثاني أكسيد الكربون، وأكاسيد الكبريت، والمواد الجسيمية الدقيقة التي تدخل الرئتين وتفتك بالجهاز التنفسي، خاصة في المدن الكبرى.
وماذا عن الماء؟ هو الحياة بحد ذاتها. لكنه أصبح في بعض المناطق عملة نادرة. إما بسبب التغير المناخي أو السحب الجائر من المياه الجوفية أو تلوث الأنهار والمحيطات بمياه الصرف الصناعي والمخلفات البلاستيكية.
أما التربة، التي هي أساس الزراعة والغذاء. فقد تم إنهاكها من فرط الاستغلال والتصحر والاستعمال المفرط للمبيدات والأسمدة الكيماوية التي تقتل التنوع البيولوجي وتجرف الخصوبة.
الغابات التي كانت تغطي ثلث الكرة الأرضية بدأت تتراجع. ليحل مكانها الإسفلت والمباني الخرسانية ومزارع التوحيد الزراعي التي تهدد الكائنات الحية بالانقراض. وتقضي على كل ما هو متنوع. الغابة ليست فقط أشجارًا، بل قلب البيئة الذي ينقّي الهواء ويحفظ التربة ويوازن المناخ.
الحياة البرية بدورها لم تسلم. فملايين الحيوانات والنباتات مهددة بالانقراض بسبب الصيد الجائر وتدمير المواطن الطبيعية وتغير درجات الحرارة.
المحيطات أصبحت مقابر بلاستيكية والأنهار فقدت عذوبتها والشواطئ تحولت لمكبات عشوائية. أما الضوضاء والضوء الصناعي، فقد شوهوا الإيقاع الطبيعي للكائنات وقلّصوا الحياة الليلية الحيوية للعديد من الأنواع.
ولا يمكن الحديث عن البيئة دون المرور على أخطر ما يهددها اليوم: التغير المناخي. فارتفاع درجات الحرارة بسبب الغازات الدفيئة وذوبان الجليد في القطبين وارتفاع منسوب البحار وزيادة الظواهر المناخية الحادة. ضمنها الفيضانات، الجفاف، الأعاصير وموجات الحرارة، كلها إشارات صارخة بأن الأرض لم تعد تحتمل عبث البشر.
الإنسان هو الفاعل الأساسي في هذه القصة، لكنه أيضًا الأمل الوحيد في الإنقاذ. لقد أنتجت الثورة الصناعية تقدمًا هائلًا، لكن البيئة دفعت ثمنًا باهظًا. وجاءت العولمة لتزيد من الاستهلاك والإنتاج والنفايات. لكن في المقابل، ظهر وعي بيئي عالمي يدعو للاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة والزراعة العضوية والتنقل النظيف والتدوير والتشجير والتنمية المستدامة التي تساهم في الحفاظ على حق الأجيال القادمة في العيش الكريم.
دور الحكومات لا يقل أهمية عن دور الأفراد. يجب سن قوانين بيئية مع مراقبة تنفيذها وفرض ضرائب على الملوثين. إضافة إلى تشجع الاستثمارات الخضراء ودمج البعد البيئي في التعليم والاقتصاد والتخطيط الحضري. كما أن المنظمات الدولية والاتفاقيات مثل “اتفاق باريس للمناخ” تمثل خطوة نحو العدالة البيئية بين الشمال الصناعي والجنوب النامي.
أما المواطن، فهو القلب النابض للبيئة. عندما يستهلك بعقل ويوفر الماء ويزرع شجرة ويرفض البلاستيك. ويفصل النفايات ويحترم الحيوان ويختار وسائل نقل صديقة للبيئة. فهو بذلك يشارك في حماية الأرض ويعيد التوازن الذي اختل.
لا يمكن فصل البيئة عن الصحة أو الاقتصاد أو السلم الاجتماعي. الفقر البيئي يؤدي إلى أمراض. والنزاعات حول الموارد تنذر بحروب مستقبلية. ونقص الغذاء والماء يزيد من الهجرة واللجوء المناخي. ولذلك فإن حماية البيئة ليست رفاهية بل ضرورة أمن قومي وأخلاقي وإنساني.
البيئة هي بيت للجميع فلا يُعقل أن يتم تخريب البيت الذي نعيش فيه. إذا مرضت الأرض مرضنا جميعًا. وإذا تنفّست الطبيعة بسلام عادت الحياة إلى صفائها. إن إعادة الصلة الروحية والعملية مع البيئة والتواضع أمام قوانين الطبيعة واحترام كل كائن حي. هي بداية الحل لكل أزماتنا المعاصرة.
فمن لا يحترم الشجرة لا يحترم الحياة. ومن لا يحزن لتلوث نهر لا يفهم معنى الطهارة. ومن لا يرى في الأرض كائنًا حيًا لا يعرف أن الطبيعة تُمهل ولا تُهمل.
التعليقات مغلقة.