أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

“الحاجة اللي ما تشبه لمولاها حرام”

جمال بدومة

من يصعد بسرعة يتدحرج بسرعة. لم يمض عام ونصف على النجاح الساحق الذي حققه إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية، حتى خرجت فرنسا العميقة، عن بكرة ابيها، في تظاهرات غاضبة تلخص الحنق الذي يستبد بالطبقات الفقيرة والمتوسطة في بلاد “ماي68”.

بخلاف شيراك أو هولاند، ماكرون لا يعرف كيف يتحدث الى الشعب. مع توالي الخطب والحوارات، اظهر موهبة خطيرة في جعل من يستمع اليه يشعر بالاحتقار. قبل أسابيع، صُعق ملايين الفرنسيين عندما سمعوه يقول لاحد العاطلين عن العمل، وهو ينهره تقريبا: “يكفي ان تعبر الطريق كي تعثر على شغل!”
هناك شيء ما في أسلوب الرئيس، الوافد من عالم المال والأعمال، يستفز الطبقة الفقيرة والمتوسطة، لذلك لم يكتف المتظاهرون بالاحتجاج على تدهور القدرة الشرائية والزيادة في سعر المحروقات، بل باتوا يطالبون باستقالته، وبعضهم يريد الزحف على قصر الاليزي كما زحف الثوار على قصر فيرساي قبل اكثر من قرنين!

في كتابه الشهير “عن الحرب”، كان كارل ڤون كلاوزفيتز يقول ان الحرب امتداد للسياسة بوسائل مختلفة، ويمكننا ان نضيف بان الاحتجاجات في الشارع امتداد لصناديق الاقتراع، بوسائل مختلفة وعنيفة احيانا.
هذه التظاهرات التي تهز بلاد روبيس پيار ليست مفاجئة. المزاج الفرنسي ثوري بطبعه. كارل ماركس قضى اخصب سنوات عمره في باريس، التي شنق ثوارها اخر ملك بأمعاء آخر رجل دين. سواء بالأصفر او الاحمر او الأخضر، الثورة تجولت دائما في شوارع فرنسا. في 1789، سيطر الغاضبون على سجن لاباستيي واطاحوا بالملكية، وفي 1870 تحصن ثوار كومونة باريس في بلدية المدينة، وفي ماي 1968 انتفض الشباب في سان جيرمان وسلموا شهادة وفاة للجمهورية الرابعة.

بعد فترة من الاستقرار النسبي، يبدو أن الطبقات التكتونية تتحرك من جديد تحت اقدام الجمهورية. ما نراه اليوم، هو استكمال للزلزال السياسي الذي عصف بالأحزاب التقليدية في ربيع 2017، عندما انتخب الفرنسيون لأول مرة في تاريخهم الحديث رئيسا من خارج احزاب اليمين واليسار المعروفة. إيمانويل ماكرون خرج من الخراب السياسي. بنى حركته الهجينة على الأنقاض، ولم يحصل على كرسي الرئاسة ومقاعد البرلمان، إلا بعد ان تشتت اليسار وتشرذم اليمين وأفلست النقابات.
خلال يوم “السبت الأسود”، الذي احرقت فيه السيارات والمباني والمحلات التجارية في باريس، كانت هناك تظاهرة في ساحة الجمهورية نظمتها الكونفدرالية العامة للشغل، اعرق النقابات في فرنسا، لكنها بدت باهتة جدا، تشبه اَي استعراض رسمي في احد الأعياد الوطنية. من الطبيعي ان يواجه الرئيس القادم من خارج المؤسسات التقليدية معارضة من خارج المؤسسات التقليدية. “الحاجة اللي ما تشبه لمولاها حرام”. السيرورة السياسية التي أوصلت ماكرون الى قصر الاليزي هي ذاتها التي أخرجت “السترات الصفراء” الى جادة الشانزيليزي. سلطة وسلطة مضادة من نفس الطبيعة، فيما الهيئات التقليدية تتفرج.

قبل ان تكون مؤسسات وميزانية ورئيسا وبرلمانا، الجمهورية فكرة، والأفكار تتحرك وتتطور، بفضل التدافع والنقاش العمومي. الشارع امتداد لصناديق الاقتراع، والغضب وقود التقدم، ويمكن ان يسرع مسيرة التطور في كثير من الأحيان، شريطة ان يتم تحويله الى طاقة إيجابية، لا الى اداة للتخريب الأعمى!

التعليقات مغلقة.