الحسيمة / إنجاز: عيسى الكامحي و أحمد جرف
لم تعد الحسيمة تلك المدينة المهمشة والغارقة في همومها، كما كان عليه الحال قبل 10 سنوات، أو أكثر، بل صارت أكثر توهجا واستقطابا للسياح، خصوصا في الصيف، لجمالها الأخاذ وموقعها في جبال الريف.
سميت الحسيمة بلؤلؤة البحر الأبيض المتوسط، لمياه سواحلها الزرقاء ومناظرها، التي تسر القلوب وتجعلك تنجذب لسحرها، وشوارعها الضيقة، التي تعكس تفردها العمراني، قبل أن تكتشف جمال شاطئها، الممتد على طول 1.5 كيلومتر، إضافة إلى أبراجها الخمسة، التي بناها البرتغاليون، إبان احتلالها لهم، قبل أن يتحول الفضاء للتنزه والاستجمام.
يبدو أن هذه المدينة عانت تهميشا ولامبالاة ومعاناة امتدت سنوات، نتيجة مخلفات الزلزال، الذي ضربها في 2004، والحراك الشعبي، بفعل تقاعس المسؤولين والمجالس المنتخبة المتعاقبة، إلى حد أنها أضحت غير قادرة على الاستجابة إلى تطلعات سكانها من فرط الخصاص المهول في مختلف القطاعات والخدمات الحيوية، قبل أن تعرف الحسيمة دينامية متميزة، جراء المشاريع الكبرى المهيكلة لبرنامج منارة المتوسط، التي أطلقها جلالة الملك سنة 2015.
الطريق إلى الحسيمة
فعلت وزارة التجهيز والنقل خيرا بسكان وزائري الحسيمة، عندما عبدت الطرق المؤدية إليها، خاصة تلك الرابطة بينها وبين تازة، عدا أخرى في طور الإنجاز، فلم يعد المسافرون يحتاجون إلى ثلاث ساعات لقطع مسافة 142 كيومترا، بل يمكن الوصول إلى هذه المدينة في مدة أقل بكثير.
ولأن جبال الريف والتضاريس الوعرة ممتدة على طول المسافة، فإن الطريق إلى الحسيمة لا يخلو من مخاطر محدقة، بغض النظر عن جودة البنية التحتية الطرقية، بسبب كثرة المنعرجات وصعوبة المرتفعات وتهور بعض السائقين، والضباب الكثيف، الذي يجتاح المنطقة، خصوصا في هذه الفترة.
لم يعد سكان الحسيمة والقرى المجاورة لها يشتكون من هشاشة الطريق الرئيسية تجاه تازة، بعد تهيئتها وتعبيدها، كما قلت الحوادث المميتة، حسب العديد من الشهادات، بعدما كانت بؤرة سوداء طيلة سنوات خلت.
وزادت مكانة الحسيمة، المحاطة بتضاريس جبلية، وذات كثافة سكانية تصل إلى 56.716 نسمة، بعد إطلاق مشاريع منارة المتوسط، التي من شأنها أن تنهض بالمدينة، وتمنحها مناخا ملائما للارتقاء أكثر، كما سترتقي مناطق حضرية أخرى، مثل بني بوعياش وإمزورن، إلا أن التأخر في إنجاز المشروع يطرح أكثر من علامات استفهام.
مشاريع تراوح مكانها
لا حديث في الحسيمة، إلا عن مشاريعها المعطلة، وأخرى تسير ببطء السلحفاة، متجاوزة الحد الأدنى للآجال المحددة في 2019، الأمر الذي أثار الكثير من الامتعاض، حول أسباب هذا التأخير ودوافعه والجهة المسؤولة عنه.
يرى فاعلون، أن حجم المشاريع المجالية للحسيمة، وتلك المتعلقة بمنارة المتوسط فاق كل التوقعات، ورصدت لها أموال باهظة، دون تسجيل آثار إيجابية حتى الآن، في الوقت الذي أشار آخرون إلى وجود أولويات لم يعر المسؤولون أي اهتمام لها، متسائلين عما إذا خضعت المشاريع المعلنة لبرنامج واضح المعالم وأجندة وإستراتيجية وتخطيط مسبق.
هكذا تبدو الحسيمة غاضبة، حيال تأخر أشغال مشاريع منارة المتوسط، فمعظم أوراش البرنامج التنموي تسير ببطء، دون إحراز تقدم واضح، عدا مشاريع على رؤوس الأصابع، علما أن عددها يفوق 1000 مشروع، وفق تقديرات مصادر متطابقة، ورصد غلاف مالي يناهز 6.5 ملايير درهم.
ولأن برنامج منارة المتوسط يستهدف إعادة الاعتبار إلى الحسيمة وفك العزلة عن ضواحيها والعالم القروي، من خلال إنجاز العديد من المسالك والمحاور الطرقية، إلا أن التأخر في الانتهاء منه يضاعف من حدة القلق لدى سكان هذه المدينة.
ويتضمن المشروع بناء سد واد غيس ( 1.3 مليار درهم)، وبرنامج تكميلي للطرق (400 مليون درهم) والطريق السريع (4 ملايير درهم)، و700 مليون درهم تخص التعويض عن نزع الملكية، و1.7 مليار درهم لتقليص الفوارق المجالية في العالم القروي.
ورغم المبالغ المرصودة لهذه المشاريع، إلا أن وتيرة الأشغال تراوح مكانها، ويمكن أن تستغرق المزيد من الجهد والوقت، في ظل وجود بعض الصعوبات، ويروم مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”، إنجاز المراكز الاستشفائية المتخصصة، وبناء مطار الشريف الإدريسي، وتهيئة منطقة صناعية، وبناء ملعب كبير لكرة القدم، ومسبح أولمبي، وقاعة مغطاة بمعايير دولية، وتشييد قاعتين مغطاتين بجماعتي أجدير وإساكن، وتهيئة ملاعب رياضية لفرق الهواة، إلى جانب بناء مسرح ومعهد موسيقي ودار للثقافة.
الوكالة في قفص الاتهام
يلف الغموض والتكتم المدة الزمنية المتبقية عن انتهاء أشغال البرنامج التنموي للحسيمة، فهناك من يحمل المسؤولية للسلطات المحلية، باعتبارها الجهة المخول لها قانونيا بتتبع الأوراش، فيما يرى آخرون أن المقاولين والشركات المكلفة بالإنجاز لم يحترموا تعهداتهم والتزاماتهم، حسب دفتر التحملات.
لكن سهام النقد موجهة تحديدا لوكالة إنعاش وتنمية الشمال وبعض الشركاء، الذين تربطهم معها اتفاقيات شراكة، ما جعلها في قفص الاتهام، بسبب سوء تنفيذ المشاريع، وتدبيرها على نحو أفضل، ووفق الآجال المحددة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمشاريع ملكية.
وحسب فاعلين سياسيين، فإن الوكالة لم تف بالتزاماتها، من أجل إتمام بعض الأشغال، وأخرى لم تسلمها رغم الانتهاء منها، ضمنها المسرح ودار الثقافة، علما أنه جرى تعيين مسؤولين جدد بها، دون تقديم توضيحات بهذا الشأن.
مهيدية ينتفض
انتفض محمد مهيدية، والي جهة طنجة تطوان الحسيمة، في وجه العديد من المسؤولين الجهويين والإقليميين، خلال احد الاجتماعات، التي جمعته، بفريد شوراق، عامل الحسيمة، وعمر مورو، رئيس الجهة، ومنير بويسفي، المدير العام لوكالة تنمية أقاليم الشمال.
وحسب مصادر اعلامية، فإن الوالي مهيدية طلب توضيحات بشأن تأخر أشغال منارة المتوسط، وبطء وتيرتها، خصوصا بالمسبح الأولمبي والقاعة المغطاة والملعب الكبير بالقرية الرياضية أيت قمرة، إضافة إلى المركز الاستشفائي.
وفتح مهيدية النار على بعض المسؤولين أثناء زيارته التفقدية للمشاريع سالفة الذكر، داعيا إياهم إلى رفع وتيرة الأشغال، وتسليمها في متم أواخر مارس.
وكشف مصدر مطلع، أن ممثلي بعض الشركات تجنبوا حضور اجتماع الوالي مهيدية، خوفا من ردة فعله وغضبه، وبالتالي تأجيل اتخاذ قرارات تخص موعد تسليم مشاريع منارة المتوسط.
وتأتي غضبة الوالي مهيدية، نتيجة بطء الأشغال التنموية للحسيمة ومطالب السكان بتهيئة العديد من الطرق والقناطر، التي طلب كذلك توضيحات بشأنها، خصوصا في بعض الجماعات القروية. كما دعا إلى فك العزلة عن مختلف الدواوير والمداشر، أملا في وصول أهاليها إلى أبسط الخدمات الصحية والتعليمية.
وسبق للمشروع الملكي الحسيمة منارة المتوسط الإطاحة بمسؤولين حكوميين، على عهد رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، ضمنهم ثلاثة وزراء وكاتب دولة ومسؤول بمكتب الماء والكهرباء، قبل أربع سنوات، بسبب اختلالات وتقصير في أداء الواجب.
واتخذ حينها القرار استجابة لطلب السكان بضرورة إيفاد لجنة حكومية لتقصي الحقائق، ومعاقبة كل من ثبت تورطه في عرقلة المشاريع، أو تأخيرها، وكانت سببا مباشرا في اندلاع احتجاجات “حراك الريف”.
منطقة على الورق
يبدو أن المنطقة الصناعية بأيت قمرة مجرد حبر على ورق، بما أنها لا تتوفر على شروط ومعايير المناطق الصناعية الأكثر إنتاجا ومردودية. فمنطقة الأنشطة الاقتصادية بالحسيمة للشركة “ميدزيد”، التابعة لصندوق الإيداع والتدبير، والمكلفة بتهيئة المناطق الصناعية، أي ما يعرف بالجيل الثالث، تكاد تخلو من أنشطة مدرة، لتبقى مجرد أوراش ومستودعات لبيع السيارات، بدل تصنيعها، ومصنع للنسيج أفلس قبل سنوات.
وحسب متتبعين، فإن السبب وراء ذلك يعود إلى غلاء البقع الأرضية، ما يعيق قدرة المستثمرين الشباب، على الاستثمار بالمنطقة، وأحيانا تفرض عليهم بقع بأمتار محددة سلفا، قد تصل إلى 3 آلاف متر، دون أن تثمر تدخلات المركز الاستثماري والمجلس الأعلى للحسابات.
جدل بسبب اختفاء مشاريع
مازال موضوع اختفاء مشاريع ضمن التنمية المجالية لإقليم الحسيمة يثير جدلا كبيرا داخل أوساط المجتمع المدني وبعض السياسيين.
واختفت بعض المشاريع في ظروف غامضة، ضمنها مشروع الجسر المعلق بين ساحة محمد السادس وجبل “مورويياخو”، ومشروع “الكورنيش”، الرابط بين “كالابونيتا” واصفيحة.
وتساءل فاعل جمعوي (م.خ) عن سبب هذا الاختفاء والجهة المسؤولة عن ذلك، مستغربا صمت السلطات المحلية، التي لم تكلف نفسها عناء توضيح ملابساته، وعما إذا كان الأمر متعلقا بمزايدات سياسية لا غير، لإخماد فتيل احتجاجات “حراك الريف” ليس إلا.
ورغم أن وكالة تنمية أقاليم الشمال أعلنت أن مشروع الجسر المعلق رصد له مبلغ يناهز 10 ملايير سنتيم، إلا أن الصفقة باتت في مهب الريح، بعد إلغائها دون سابق إشعار.
أما مشروع كورنيش “كالابونيتا اصفيحة”، فبقي مجرد حبر على ورق، دون أن تعلن الوكالة أي توضيح بشأن الصفقة، علما أن المشاريع المختفية برمجت في إطار الحسيمة منارة المتوسط، التي أطلقها الملك في 2015 لتنمية المنطقة ككل. كما انتقد بعض السياسيين الارتجالية التي عرفها مشروع حلبة التربية الطرقية، التي دشنها عبد العزيز رباح، بمنطقة ميرادور في 2013، عندما كان وزيرا للتجهيز والنقل، غير أنه تم الإجهاز عليه دون مبرر معقول، قبل أن يتم نقلها بعد سنوات، بجماعة أيت قمرة، ما يعني تبذير المال العام، دون حسيب أو رقيب، حسب هؤلاء.
مشاريع بعيدة عن الأولويات
قال فاعل جمعوي وصحافي، إن الحديث عن برنامج “الحسيمة منارة المتوسط” يفرض طرح السؤال هل هناك برنامج محدد أو مجرد مجموعة من المشاريع برمجت دون التفكير في الجدوى منها، ووضع سلم الأولويات؟
وأضاف (غ.س)، أن الحديث عن البرنامج يقضي الأمر تحديد احتياجات المنطقة والأولويات والجدوى، بمعنى التأثير الاجتماعي والاقتصادي لهذه المشاريع، خصوصا أن الهدف من كل برنامج تنموي، هو الإنسان في حد ذاته، وتابع “لا يمكن نكران أن المنطقة كانت في حاجة ماسة إلى العديد من المشاريع، بما أنها ستمنح لها جاذبية أكثر للاستثمار والاستقرار، وبالتالي سيكون لها الأثر الإيجابي على السكان”.
وأكد (س.غ) أنه ثمة مشاريع لم يحترم فيها تحديد سلم الأولويات، أو على الأقل كان يفترض أن تكون مصاحبة ببرامج أخرى. وزاد قائلا “مهما كان حجم الميزانيات المخصصة للمشاريع، فإن لم يتم الالتفات إلى واقع الشباب والبطالة والوضع الاجتماعي وهشاشة العالم القروي، فلا يمكن تحقيق المراد”.
مـاذا ينـقـص المـديـنـة؟
ماذا ينقص الحسيمة بعد المشروع الضخم منارة المتوسط؟ سؤال يردده كثيرون، إلا أن الإجابة تبدو واضحة، إنها تحتاج تشغيل شبابها، عبر منحهم فرص عمل توازي طموحاتهم، ومعامل تحد من شبح البطالة، التي تلاحقهم، فيما ترى فعاليات من المجتمع المدني، أن ما ينقص حقا، لتكون منارة حقا، مسؤولون حقيقيون يتمتعون بروح المسؤولية، وحب للمنطقة، وتشجيع الاستثمار والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة.
لا أحد ينكر في الحسيمة الطفرة النوعية والدينامية التنموية، التي عرفتها منذ زلزال 2004، إلى حد أصبحت هذه المدينة ورشا مفتوحا، إلا أن ذلك لم يمنع من توجيه بعض الانتقادات بشأن وجود اختلالات في توزيع وحداث سكنية مخصصة لذوي الدخل المحدود والاستثمار والترامي على الملك العام والبحري، ومعضلة الصيد البحري والتطبيب، وانعدام فرص الشغل.
التعليقات مغلقة.