د/ موفق السباعي
سأل أحد الأصحاب صاحبه: ما لي أراك متعباً، ومُجهداً، ووجهك مصفراً، وعيناك زائغتان؟!
رد عليه صاحبه: صدقت – يا أخي الكريم – إني متعب جداً، فقد أصبت بالتهاب شديد في الرئتين، والقصبات الهوائية، مع آلام شديدة في المعدة، حتى ظننت أنها هي السبب الوحيد: لهذه الآلام المبرحة، التي لم أذقها في حياتي كلها.
وأمضيت عشرة أيام أو يزيد، لا أستطيع أن آكل أي شيء، مما اضطرني إلى مراجعة طبيب الهضمية وطلبت منه عمل تنظير لها، لربما فيها قرحة، أو التهاب.. غير أن الموعد، كان في الأسبوع التالي.
فتحاملت على نفسي، وكان عندي موعد في اليوم التالي: لتلقي جرعة من العلاج الكيماوي المضاد لورم نقي العظم المتعدد..
ولما رآني طبيب أمراض الدم الذي يعالجني، متعباً بشكل شديد، طلب من طبيب آخر، اجراء فحص سريري لي، وبعد الفحص حولني إلى الإسعاف، الذي قام بإعطائي جرعات من الأوكسجين، وإعطائي المصل في الوريد، مع جرعة مسكنة للألم.
ولما رجعت إلى الطبيب الذي حولني إلى الإسعاف، مع تقرير عن حالتي.. قرر إدخالي المستشفى بشكل عاجل.
فأمضيت فيها ثلاثة أيام، كان قناع الأوكسجين لا يفارقني طوال أربع وعشرين ساعة، إلا وقت الطعام، ودخول الحمام، وأداء الصلاة.
وفي اليوم الثالث، قررت الخروج من المستشفى، بعد أن شعرت بشيء من التحسن.
لكن السبب الرئيسي الذي دفعني إلى الخروج السريع هو: أن بطارية الهاتف، أخذت تتناقص، ولم أجد أحداً لديه شاحن لأشحن البطارية.
والمصيبة الكبرى! أنه إذا نفذت بطارية الهاتف، فإني لا أعرف كيف أرجع إلى البيت.. لأني جئت إلى المستشفى اعتماداً على خريطة غوغل، الموجود على الهاتف، فإذا تم إغلاق الهاتف بسبب نفاذ البطارية، فكيف السبيل إلى خريطة غوغل؟!
وهنا سأل الصاحب صاحبه، ألا يوجد معك أحد يأتيك بشاحن الهاتف؟!
رد عليه المريض للأسف لا..
يسأله صاحبه: وبعد أن خرجت من المشفى، هل توقفت آلام المعدة المبرحة، التي كنت تعاني منها أشد المعاناة؟!
فقال المريض: للأسف الشديد، زادت بشكل رهيب، آلام تقطع المعدة تقطيعاً، لم أذق مثل هذا الألم طوال حياتي.
فأمضيت ليلة الجمعة، مؤرقاً، ومسهداً، وكذلك أمضيت يوم الجمعة باستمرار الآلام، وتتابعها، حتى أني لم أتمكن من صلاة الجمعة لشدة، الآلام، والضعف، والوهن الشديدين، اللذين أصاباني، بالرغم من أني بدأت باستخدام المضاد الحيوي، الخاص بالتهاب الرئتين، ولكن لسوء الحظ ، لم يحدث أي فرق.
ثم استعنت بمضاد حيوي آخر، يوم السبت، ولكن الآلام القاتلة، بقيت كما هي، مما اضطرني إلى الذهاب إلى الإسعاف، في مستشفى قريبة من البيت.. وطلبت منهم إعطائي مسكن في الوريد مع المصل بشكل عاجل، وإعطائي الأوكسجين.
وبعد إجراء فحص الدم، وفحص الرئتين بالأشعة الطبقية.. قرر طبيب الإسعاف، ضرورة دخولي المشفى لتلقي العلاج المناسب.
فدخلتها مساءَ، وبقيت فيها حوالي عشرة أيام.. أتلقى فيها جرعات الأوكسجين باستمرار كما كان في المشفى الأول، وجرعات من المضاد الحيوي، والمسكن مع المصل في الوريد.
وبعد عدة أيام، أخذت آلام المعدة تخف، والحمد لله رب العالمين، وتبين أن آلام المعدة، ليس مصدرها المعدة، وإنما مصدرها التهاب الرئتين، فلما أخذ التهاب الرئتين يخف؛ نتيجة المعالجة النوعية بالمضادات الحيوية، التي كانت تدخل إلى الجسم عبر الوريد، أخذت آلام المعدة تخف أيضاً.
وهنا سأله صاحبه: ولكني لم أر على وسائل الإعلام، أنك نشرت أي شيء عن مرضك، وطلبت من الناس الدعاء لك – كما يفعل الجميع –.
رد عليه المريض: نعم! فعلاً لم أنشر شيئاً عن مرضي، ولن أنشر شيئاً عن دخولي المشفى، ولن أسلك هذا الطريق المَهين، المُذل.. كما أرفض هذه الاستعراضات الهزلية، بنشر صوري على الأسرة البيضاء، كما أرفض رفضاً قاطعاً، أن أتسول، أو أستجدي الدعاء من الناس.
قال له صاحبه: ولكن – كما تعلم – أن الدعاء هو مخ العبادة، وإذا جاء الدعاء بظهر الغيب من عدد كبير من الناس، يمكن أن يُحدث فرقاً، ويُسرِّع الشفاء.
رد عليه المريض: أعلم ذلك، ولكن مجرد الطلب من الناس، أي شيء – سواءً كان الدعاء أو غيره – هو في حد ذاته عملٌ مَهين، ومُذل، وفيه صورة مهينة، من التسول، واستجداء الناس، واستعطافهم.
فقيمي، وأخلاقي، وعقيدتي.. تأبى أن تطلب المعونة، أو الاستعطاف من الناس.
وثقتي القوية بالله تعالى، الذي بيده كل شيء، والقادر، والمقتدر، والقدير على كل شيء، تمنعني من طلب أي شيء من الناس.
لأني أعتبرهم هم فقراء إلى الله، ولا يملكون لأنفسهم أي شيء، ولا يستطيعون أن يقدموا أي مساعدة.. فهم عاجزون عجزاً كاملاً في مسألة المرض.
أما مسألة الدعاء لأخيه بظهر الغيب، فهذا حق لا شك، ولا مراء فيه البتة، ولكن كيف؟
حينما يعلم الناس بطريقة ما، عن مرض إنسان آخر، يحترمونه، ويقدرونه، ومن ثَمَّ يتصلون به، ويسألون عن أخباره، ويعرضون أنفسهم لتقديم أي مساعدة له.. وبما أنفته، وكبرياء، وكرامته، ترفض قبول أي مساعدة من الناس، حينئذ فقط يطلب منهم الدعاء.
كما حصل مع بعض الشباب في مسجد الحي، الذي أصلي به.. فحينما انقطعت عن المسجد بضعة أيام، افتقدني أحدهم، واتصل بي هاتفياً، يسأل عن أخباري، وعن سبب انقطاعي في الصلاة في المسجد، حينئذ أخبرته مضطراً، أني في المستشفى، أعاني من مرض التهاب الرئتين، والقصبات الهوائية.
وهنا عرض نفسه لتقديم أي مساعدة، أنا محتاج إليها، فقلت له: إني أحتاج إلى مساعدة وحيدة لا غير، وهي الدعاء لي بسرعة الشفاء.
ثم انتشر خبر وجودي في المشفى لدى كل شباب المسجد، فأخذوا يتصلون بي هاتفياً، للاطمئنان عني، وعن صحتي، وكل واحد منهم كان يعرض نفسه؛ لتقديم أي مساعدة، أحتاج إليها، فكان طلب الدعاء.. هي المساعدة الوحيدة التي أحتاج إليها.
وهكذا! تم طلب الدعاء من الأصحاب، بعزة، وكرامة، وبدون أي تسول، أو استجداء، أو استعطاف من الناس.
التعليقات مغلقة.