بقلم الروائي الأستاذ عبد الجليل الوزاني التهامي
كان والدي ـ رحمه الله ـ يتردد على زيارتي بين الفينة والأخرى بالرغم من التعب الذي أصابه، وهو على وشك إتمام عقده الثامن، كان كلما سافر إلى وزان أو فاس أو الرباط يصرّ على المرور من بيتي بسيدي قاسم، وكان أحيانا يرتدي جلبابه، ويضع عمامته الناصعة البياض فوق رأسه، ويقول للوالدة:
ـ سأسافر إلى سيدي قاسم.
يقولها ويتجه إلى المحطة دون أن يتأكد من وجود وسيلة نقل تقله في تلك اللحظة.
نعم هكذا كان أبي، ومنذ تعييني بهذه المدينة، لا يكل، ولايتعب، ولا يفكر في مشقة الطريق ووعثاء السفر، فبمجرد ما تنتابه ذرة شوق صغيرة إلا وحل ببيتي، يؤنسني بروحه الطيبة التي تملأ المكان حبورا وفرحا.
أتذكر ذات عيد أضحى، وكان أول عيد نقضيه هناك وحيديْن، وبُعْيد مغرب يوم العيد، سمعنا طرقات على الباب، فقالت زوجتي:
ـ هذا عمي، نعم إنها طرقاته.
وبالفعل كان الطارق أبي، سمعته يقول وهو يهل، تسبقه بسمته المعهودة:
ـ والله يا ولد، العيد بدونك لا طعم له، كنا حول مائدة الغذاء جميعا، وجود إخوانك وأخواتك حولي زاد من شعوري بفقدك، فقلت لوالدتك، كيف تحتفلون بعيدكم وعبد الجليل هناك وحيد، سأسافر من لحظتي إلى سيدي قاسم.
يجلس يسترد أنفاسه ويتوجه بالكلام إلى زوجتي:
ـ كنت أعرف ألا وجود لحافلة بعد الظهر تأتي إلى هنا، فقررت التوجه إلى مدينة طنجة بواسطة سيارة الأجرة وهناك أخذت القطار المتجه إلى هنا.
هذا هو أبي الذي كان، وسيبقى خالدا في كياني، في فؤادي وعلقي مهما حييت، أجل أبي الذي كنت أشد به أزري رغم اشتداد عودي وكبر سنه، كان في الأربع سنوات الأخيرة من عمره يعاني من تعب شامل، وألم في الركبتين مما كان يعوق حركته ومع ذلك كان مصرا على المشي والسفر، متغلبا على ضعفه، مقاوما لآلامه وتعبه.
أتذكر أنني رافقته ذات صيف إلى بواحمد لقضاء بعض أغراضه، أنزلتنا الحافلة بجانب السوق الذي كان غاصا برواده كعادته في فصل الصيف، جلسنا بخيمة أحد معارفه ممن يبيعون معدات النجارة والخشب، كان يرغب في الوصول إلى بيت المرحومة عمتي ليرتاح هناك من وعثاء السفر، ويتوضأ لصلاة الظهر، قبل أن نشد الرحال عائدين، لكن ركبتيه لم تسعفاه، فلم يستطع الصعود إلى البيت الذي يقع بأعلى البلدة، أدركت أنه يتألم، يتحسرعلى وصل إليه، فقد أمسى عاجزا عن السير إلى مكان قريب، كنت حزينا لحزنه متأسفا لأسفه، سيما أننا لم نجد وسيلة نقل تقله إلى البيت، فقال لي بانكسار:
ـ لنعد إلى تطوان يا ولدي، أبوك فقد القدرة على الوصول إلى المكان الذي ولد به.
بعد ذلك بسنتين عدت إلى تطوان مع مطلع العطلة الصيفية، لم أجده ووالدتي هناك، كانا معا ببيت أختي في بلدة اسطيحات الشاطئية المجاورة لمسقط رأسه، فقررت أن أزورهما، وبالفعل توجهنا إلى هناك، كان لحظة وصولنا بفناء البيت الذي يتوفر على حديقة صغيرة تطل على الشارع، عندما رآني أغادر السيارة رفقة أسرتي الصغيرة، اغرورقت عيناه بالدموع، كانت تلك المرة الثالثة أرى فيها دموع والدي، كانت الأولى في بلدة “وادي لو” يوم جنازة ” أمينة” ابنة عمي التي ماتت وهي في ريعان شبابها، قبل ذلك بعشرين سنة، وكانت المرة الثانية عندما علم بنجاحي في الباكالوريا، نعم دموعه هذه المرة ذات معنى خاص دموع الشيخ الذي أقعده التعب وقيدت من حركاته السنون رغم أنه لم يكن قد أقفل الثمانين.
عندما وصلني نعي وفاته ذات صباح كنت بالبيت، لم أغادر فراشي بعد، كانت زوجتي قد ذهبت إلى المؤسسة بلحظات قليلة، بينما كان الأولاد نائمين ذلك اليوم الذي صادف سبتا، ورنّ هاتف زوجتي الذي تركته بالبيت، كان المتصل محمد ابن أختي، قال بصوت مرتعش، يغالبه البكاء
ـ البقية في راسك أحبيبي، باسيدو مات.
نزلت تلك الكلمات ببدني منزل الصاعقة، شدتني رعشة لم أشعر بمثلها من قبل، أحسست بدوار شديد، أضاف:
ـ الجنازة اليوم بعد العصر،
قلت سابقا تبا للبعد، تبا للمسافة التي تفرق بيني وبين أهلي، وكما سبقت أن عانيت من لحظة الفقد البعيد من قبل فقد حان الأجل لتكون معاناتي أعمق هذه المرة، فالأمر يتعلق بوفاة والدي.
كان آخر مرة رأيته فيها قبل أقل من شهر عندما زرته بمناسبة عطلة منتصف السنة الدراسية، كان لحظة مغادرتي البيت بفراشه لا يستطيع مغادرته، أذكر كيف قبله الأولاد، بالتناوب:
ـ سألته كيف الحالي يأبي؟
فرد رحمه الله بصوت كسير:
ـ أبوك يرتشف القطرات الأخيرة من كأسه.
أجل فقد كان يحس بدنوه أجله.
عندما وصلني نعيه ذلك الصباح لم أعرف كيف أتصرف، زوجتي بالمدرسة، ولن تحضر قبل منتصف النهار، أخذت ورقة وقلما، وكتبت بيد مرتعشة:
ـ ” والدي قد توفي، عودي فورا”.
طويت الورقة، أيقظت ابني البكر برفق، طلبت منه أن يرتدي ملابسه، ثم سلمته الورقة، وقلت له:
ـ اذهب الآن إلى المدرسة وسلم والدتك هذه الورقة.
بالفعل وبعد وقت قصير حضرت زوجتي يسبقها حزنها على الرجل الذي كانت تكن له تقديرا واحتراما ومعزة خاصة.
كان بهاتفي وقتها عطب يمنع ارتباطه بشكل جيد بالشبكة، فبالفعل اتصلوا بي وقت الفجر مرارا دون جدوى، مما أضطرهم للبحث عن رقم زوجتي للاتصال بها.
غادرنا مدينة سيدي قاسم حوالي العاشرة صباحا، كنت أعرف أن الوقت كافٍ للوصول إلى تطوان قبل الدفن، كانت زوجتي تسوق على مهل، ليس استجابة لنصيحة الأصدقاء والمتصلين بي من تطوان فحسب، بل لأن سياقتها تتسم بالحذر..
حينما وصلنا إلى تطوان طلبت من زوجتي أن تتركني بشارع خالد بن الوليد القريب من بيتنا، مفضلا السير على الأقدام نحو البيت في حين أكملت هي الطريق إلى بيت أهلها مجنبين الأبناء الجو الجنائزي ببيتنا.
دخلت دربنا من الجهة الغربية، لاحت لي كراسي العزاء بجوار بابنا ممتلئة عن آخرها، عمق ذلك من حزني الذي لا قرار له، وصلت إلى الباب، قام بعض المعزين لاستقبالي. ما أصعب تلك اللحظة، لحظة دخولي إلى البيت حيث صار أبي جثة هامدة. سألت أختي التي تورمت مقلتاها من فرط البكاء:
ـ أين أبي؟
ردت بعفوية:
ـ بحجرته حيث تركته.
دفعت باب حجرته، كانت خالية من أثاثها، رأيته هناك مسجى بوسط الحجرة يلفه البياض، تقدمت منه، انحنيت، قبلته على جبينه قبلة الوداع، كانت تلك النظرة الأخيرة إلى وجهه العزيز.. أجل فقد مات أبي.
لم أبكه دمعا، فالدموع غارت في قرار سحيق، وأبت أن تروي المقلتين المتحجرتين، شيء أعمق من الحزن، وأقسى من الأسى، ذلك هو الشعور باليتم، أجل اليتم الذي يشعر به كل امرئ وإن بلغ من العمر عتيا.
كنت أسير خلف نعشه، يستوقفني المعزون حتى أمسيت متخلفا عن موكب الجنازة الذي لا يرى السائرون بأخرها السائرين بأولها، لم أكن أمشي علي قدمي، كنت أحس أنني لا أطأ الأرض مطلقا، فقد صرت بدون سند، فقدتُ الأرض الصلبة التي كنت أحس بالآمان وانا أقف عليها، فقد صرت معلقا في اللاشيء، ذلك هو الإحساس الذي انتابني لحظتها وسكنني وقتا طويلا.
فاجأني أن يكون مدفن والدي بالمقبرة الإسلامية العمومية باب المقابر، الأمر الذي لم آلفه من قبل، فكل المتوفيين من العائلة الوزانية الكبيرة بتطوان يُدفنون بزاوية مولاي محمد بالترانكات، أعمامي وأبناء أعمامي، كلهم دفنوا هناك. بالليل وعندما انفردت بوالدتي، سألتها عن السبب الذي جعلهم يكسرون تلك العادة، فقالت:
ـ والدك رحمه الله ـ أوصى بذلك، كان مصرا ألا يُدفن بالزاوية، في الصيف الماضي عندما كنا باسطيحات أصيب بوعكة، فأوصى أن يُدفن بمقبرة جده ببواحمد، وإذا مات بتطوان فليدفن بمدافن المسلمين العمومية بباب المقابر.
عندها فقط ارتحت، واستبعدت أن تكون إدارة نظارة الزاوية هي التي حالت دون دفنه بها.
مات أبي ولكنه ظل حيا بخلدي، أحس بروحه الطاهرة تحوم حولي تؤنسني في وحدتي، وتشد من أزري ساعة الضيق، أجل والدي لم يمت قط، وما ينبغي أن يموت وأنا حي أرزق.
النص مقطع من سيرة ذاتية قيد الإنجاز
التعليقات مغلقة.