إنَّ ما يُحدِّد طبيعةَ الروابط الاجتماعية لَيس الأفعال الارتجالية والمشاعر الساذَجة، وإنَّما الصيغة العقلانية بين منطقِ اللغة الرمزي والمنظورِ المعرفي السلوكي.
وهذا المنظورُ لَيس تصوُّرًا ذهنيًّا أوْ فِكْرَةً مُجرَّدة، وإنَّما هو رؤية وجودية للأحداث اليومية والوقائع التاريخية، نابعة مِن فلسفة الما وراء الاجتماعي، أي رؤية الدوافع الخَفِيَّة التي تختبئ وراء الأحداث، وقراءة ما بين السُّطور، وتحليل العلاقة النَّفْسِيَّة بين الذات والموضوع، وعدم الغرق في اللحظة الآنِيَّة، لأنَّ الهدف من الروابط الاجتماعية هو حِفْظ مصادر المعرفة الإنسانية للوُصول إلى بَر الأمان، ولَيس تَشتيت الجُهود في محاولات اختراع تاريخ وهمي يُوازي التاريخَ الحقيقي، مِن أجل إعادة تصميم الذاكرةِ الجمعية، والمفاهيمِ الذاتية، والمعاييرِ الفكرية، لإحداث توافق صُوَري بين الدليل اللغوي والدَّلالة الاجتماعية.
يجب أن تكون العلاقةُ بين اللغة والمجتمع انعكاسًا لتاريخ المعنى الوجودي في تَحَوُّله الطبيعي لا الاصطناعي.
والتَّحَوُّل الطبيعي يعني انتقالَ المُمَارَسَة العملية إلى النظرية الفكرية إلى الرمزية اللغوية، وبالعَكْس، وهذا الانتقال يَنتج عن عملية طرح الأسئلة المصيرية على الذات والمُجتمع، والبحثِ عن أجوبة منطقية.
وبما أنَّ الفِكْر موجود في جميع الروابط الاجتماعية، فلا بُد أن تتحوَّل الروابط الاجتماعية إلى بيئة خِصْبة لتوليد الأسئلة والأجوبة معًا، مِمَّا يُقَدِّم زخمًا كبيرًا للتفاعلات المعرفية بين الفرد واللغة مِن جِهة، واللغة والمُجتمع مِن جِهة أُخرى.
الإشكاليةُ الفلسفية في بناء المُجتمعات الإنسانية تتمثَّل في البحث عن الأشياء، والحِرص على وُجودها، وعدم البحث عن المعنى الوجودي للأشياء.
وهذا أمرٌ شديد الخُطورة، لأنَّه يُعَرِّي الدَّال( الشَّكل ) مِن المَدلول (الجَوهر)، ويَفصِل جَسَدَ التاريخ عن صورته الذهنية، ويُفَرِّغ الفردَ مِن حِسِّه النقدي، ويُجرِّده مِن قُدرته على الهدم والبناء في عَالَم النظريات الاجتماعية والظواهر الثقافية.
والغايةُ مِن النشاط الاجتماعي هي الوصول إلى المعرفة التي يستطيع الرمزُ اللغوي بواسطتها أن يُفَسِّر العلاقةَ النظامية بين السُّلوكِ الإنساني والعواملِ المُؤَدِّية إلَيه.
وأهميةُ الرمز اللغوي تتجلَّى في قُدرته على تحليل السُّلوك الإنساني باعتباره هُوِيَّةً لها كَيْفِيَّة مُتغيِّرة، ومِعيارًا قائمًا على السَّبَبِيَّة.
والسَّبَبِيَّةُ تُحدِّد نُقطةَ بداية السُّلوك الإنساني، والكَيْفِيَّةُ تُحدِّد نُقطةَ نهايته، وبذلك يتَّضح المسارُ السُّلوكي كاملًا بلا فَجَوَات ولا مُفاجآت، وهذا يُساهم في تَكوينِ جَوهر المُجتمع، وَرَسْمِ صُورته المُستقبلية، وتجسيدِ الظواهر الثقافية كتجارب حياتية واقعية.
وكُلَّما انتقلتْ تراكيبُ البُنية الاجتماعية مِن المُجَرَّد إلى المَلموس، انتقلت الظواهرُ الثقافية مِن المُمَارَسَة إلى التأثير، وهذا سَيُوَلِّد أفكارًا إبداعية، ورُؤيةً جديدةً لعلاقة الفرد بضغوطات مُجتمعه وإفرازات بيئته، وهذه الرؤيةُ الجديدةُ تَحْمِي الفردَ مِن الاغتراب النَّفْسِيِّ، الذي يَصنع وَعْيًا زائفًا وشُعورًا وهميًّا.
وإذا انفصلَ الفردُ عن ذاته أوْ مُجتمعه، فإنَّ هُويته الشخصية سَوْفَ تتشظَّى بين العواملِ النَّفْسِيَّة المُرتبطة بالأحلام الفردية، والعواملِ الاجتماعية المُرتبطة بالشرعية التاريخية.
وهذا التَّشَظِّي يعني انتقالَ مفهوم الهُوِيَّة من المَاهِيَّة الوجودية إلى الكَينونة السُّلطوية، وبالتالي يَغرق الفردُ في صِرَاعَيْن: صِرَاع في ذاته، وصِرَاع على ذاته، لذلك كان التَّشَظِّي في هُوية الفرد هو الخطر الحقيقي على وَعْيِه، وأفكاره، وحُرِّيته.
وإذا انكمشتْ مساحةُ الحُرِّية، فإنَّ المعايير الأخلاقية ستنهار، ويُصبح المُجتمع مصدرًا للأفعال الآلِيَّة المصلحية الخاضعة لِسُلطة الأمر الواقع.
الحُرِّيةُ لا تَعني أن يَفعل كُلُّ فرد ما يَحلُو له، وإنَّما تعني حُرِّية اختيار المسار الحياتي، وحُرِّية الفِعْل الاجتماعي، والتزام الفاعل بِتَحَمُّل مسؤولية الفِعْل.
وارتباطُ المسؤولية الشخصية بالحُرِّية الفردية يُعَدُّ الركيزةَ الأساسية في طبيعة الروابط الاجتماعية، التي تُوظِّف تقنياتِ التفكير لاكتشاف المعنى الكامن في مصادر المعرفة، وأشكالِ الوَعْي بأهمية التغيير.
وكما أن الظواهر الثقافية تُعْتَبَر مناهج عقلانية لتحليل كيفية تأثير اللغة على الأفكار، كذلك التجارب الوجودية تُعْتَبَر أشكالًا واعية لتحليل كيفية تأثير الأفكار على المُجتمع، وبالتالي، يُعيد الفردُ اكتشافَ ذَاتِه وحُلْمِه ومَصِيرِه ضِمن اللغة والأفكار والمُجتمع، ويُعيد المُجتمعُ اكتشافَ كِيانه مِن خلال الهُوية الشعورية الفردية والماهيَّة الوجودية الجماعية.
التعليقات مغلقة.