يظل من المثير متابعة النقاش الإعلامي، وإن المحدود، بشأن الصهيونية وجوهرها، سواء الثابت أو المتحوّل، والذي يدور في إسرائيل، هذه الأيام بالذات، على خلفية احتداد تداعيات آنية للعلاقة بين الدولة والدين، وبين الصهيونية والدين، في ظل اتساع نفوذ تيار الصهيونية الدينية أو تيار اليهود الأرثوذكس (الحريديم) في السياسة والحياة العامة.
ويعود سبب تفجّر هذا النقاش الآن، من ضمن أمور أخرى، إلى انسحاب أو إقصاء نخب قديمة في حزب الليكود (الحاكم)، وظهور نخب جديدة ذات طابع قومي – ديني من جهة، وطابع شعبوي – فاشي من جهة أخرى.
من جديد تجليّات هذا النقاش، وصف الكاتب الإسرائيلي، حاييم بئير، تيّار الصهيونية الدينية، بأنه سرطان في جسم الدولة، فانتفض عليه المعلق الصحافي، أوري مسغاف، من “هآرتس” زاعماً أن من الخطأ وصف هذا التيّار أصلا بأنه صهيوني. وكتب: كان جوهر الصهيونية ضمان إنشاء بيت قومي لليهود ضمن حدود معترف بها وآمنة، في إطار دولة ديمقراطية ذات أغلبية يهوديّة، تسود فيها مساواة كاملة في الحقوق لجميع المواطنين. ولا شك في أن مشروع الاحتلال والاستيطان يقوّض هذا الهدف منذ 52 عاما، فضلا عن أن أفكار الضم الآخذة في التوسّع ستُحبطه إلى الأبد.
وحدا هذا الكلام بالصحافي، جدعون ليفي، من “هآرتس” إلى تفنيد أزعومة زميله وتأكيد أن الخلل راجعٌ بالأساس إلى الخطيئة الأصلية للصهيونية الكامنة في طبيعتها الكولونيالية الإحلالية. وكتب: إن الصهيونية المنعوتة بأنها “عقلانية”، كما قد يُستشف من كلام مسغاف، لم تكن بريئة قبل احتلال 1967 بزمن طويل. فـ”احتلال العمل” وطرد العمال الفلسطينيين من أماكن عملهم، والذي بدأ في عشرينيات القرن الفائت، لم يكن من بنات أفكار معسكر الصهيونية – الدينية. و”تحرير الأرض” لم يكن نهج بني عكيفا (حركة شبيبة دينية تأسست عام 1929 فرعا من حركة هبوعيل همزراحي، وسيطر عليها بمرور الزمن حزب المفدال). وما بدأ آنذاك استمر من دون توقف. السياسة نفسها، القيم نفسها، مبادئ العمل نفسها، ووجهة النظر نفسها التي وقف في صلبها أن هذه البلاد وقفٌ للشعب اليهودي وله فقط.
وعرف اليسار الصهيوني دائما كيف يغلف وجهة النظر القوموية هذه بكلماتٍ جميلةٍ عن التعايش والأخوة، من دون أن يقوم بأي عملٍ من شأنه أن يحققهما. إن أيّاً من ممارسات احتلال 1967 لم يبدأ في 1967. ما حدث في 1967 هو استمرار مباشر لما حدث في 1948، حين كانت الصهيونية الدينية تؤدّي دورا يمكن توصيفه بأنه هامشي. وما يحدث عام 2020 هو استمرار لما حدث في 1948 وفي 1967.
لعله من الجدير أن يُضاف إلى أقوال ليفي أيضا أن كلمة احتلال استعملت عن وعي مسبق الأدلجة، لتحديد دعائم ثلاث قامت عليها سياسة الصهيونية في فلسطين منذ بدايات القرن الفائت، وهي احتلال الأرض، واحتلال العمل، واحتلال السوق. وفيما يخصّ احتلال الأرض الذي لم ينته، صاغ أحد كبار زعماء الصهيونية، مناحيم أوسيشكين، البرنامج، كما يلي: إن لم نستملك نحن أراضي فلسطين ونستعمرها بإنشاء القرى فيها فلا أمل في أن نجعلها وطنا لنا، وستبقى عربية. ليس صعبا على اليهود، عاجلا أو آجلا، أن يحتكروا التجارة والصناعة والتعليم. أما امتلاك الأرض فليس في وسعنا فقط إنما هو منوط بالبائع أكثر. إننا نرى العرب وقد تنبّه فكرهم إلى صالحهم، وأصبحوا يشعرون بكيانهم. ومن ثم نحسب كل تأخير في امتلاك الأراضي الفلسطينية جُرما لا يغتفر. تبلغ مساحة الأرض في فلسطين 20 مليونا من الدونمات، منها 30% للحكومة و35% أملاك فلاحين و35% للملاكين الأغنياء. أمامنا إذا الأفندية الأغنياء الذين لا يأبون بيع أملاكهم إن وجدوا ربحا في بيعها. وغايتنا على وجه الخصوص هي امتلاك سهل زبولون [مرج ابن عامر] وسواحل البحر والمساحات الممتدة بين يافا والقدس من هؤلاء الأفندية.
التعليقات مغلقة.