أول جريدة إلكترونية مغربية تتجدد على مدار الساعة

الطاقة الرمزية في اللغة وتغيير المجتمع

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

الطاقةُ الرمزية في اللغة تكشف الجوانبَ المتعددة للظواهر الثقافية في مُحيطها الفكري وبيئتها الاجتماعية، وكشفُ هذه الجوانب لَيس مقصودًا لذاته، ولا يُشكِّل غايةً قائمة بِنَفْسِها، وإنَّما هو وسيلة لنقل الأفكار من المعايير الأخلاقية إلى البُنى الوظيفية للسلوك الإنساني في إطار الأحداث اليوميَّة والوقائع التاريخيَّة.

وعمليةُ نقل الأفكار لا تَحْدُث في الفراغ، وإنَّما تَحْدُث في المجال الحيوي للعلاقات الاجتماعية، الذي يَستطيع تَشييدَ كِيَانات معرفية ذات قيمة وجودية، وصناعةَ تصوُّرات عملية عن ماهيَّة الفِعل الاجتماعي،الذي يعتمد على حقيقةِ الأحداث في الواقع، وطبيعةِ الأشياء في الذهن، وكَيْفِيَّةِ الربط بينهما ضِمن مصادر المعرفة التي يَحْصُل عليها الفردُ مِن خِبراته الحياتيَّة، وضِمن التجارب المُعاشة التي يكتسبها الفردُ مِن رُوحِ الحياة وجسدِ التاريخ.

وإذا تَمَّ تحويلُ مصادرِ المعرفةِ والتجاربِ المُعاشةِ إلى منظومة سُلوكية قائمة على الأفكار الإبداعية، فإنَّ شخصية الفرد وسُلطة المجتمع سَوْفَ تَتَشَكَّلان وَفْقَ هذه المنظومة السُّلوكية.

والعلاقاتُ الاجتماعية ما هي إلا نظام شُعوري ومنظومة سُلوكية، يتحكَّمان في طريقة تفكير الفرد، ويُحدِّدان الفرقَ الوجودي بين الخِبرةِ المُستقاة مِن انعكاس الوَعْي على الواقع، والخِبرةِ المُستقاة مِن دَوْر الواقع في صياغة الوَعْي.

وإظهارُ الفرق الوجودي بين هَاتَيْن الخِبْرَتَيْن ضروري مِن أجل توظيفِ الظواهر الثقافية في بُنية المجتمع العقلانية، وإبرازِ الجانب الرمزي للثقافة في إطارها اللغوي ومُحيطها الاجتماعي.

الطاقةُ الرمزية في اللغة تُوضِّح طبيعةَ الاختلاف بين الأفكار السلوكية والأفكار النَّفْسِيَّة، وهذا يُسَاعِد الفردَ على التَّحَكُّم في مدى تأثير الظواهر الثقافية في حياته، مِمَّا يُؤَدِّي إلى ترسيخ الثقافة في حقائق البناء الاجتماعي، باعتبار أنَّ الثقافة هي الحقيقة المركزية الواقعية في المجتمع. و

لَيست الثقافةُ بيئةً مِن الكِيَانات الافتراضية، وإنَّما هي بيئة مِن عناصر الوَعْي الوجودي بتفاصيل الحياة، وهذا العناصرُ مُتَّحِدَة في الغاية، ومُختلفة في المسار.

وغايةُ الثفافة هي إعادة بناء المجتمع على أُسُس عقلانية صحيحة وقواعد منطقية سليمة، وذلك بفحصِ المُسَلَّمَات الفكرية التي يَتَبَنَّاهَا الأفرادُ، وتمحيصِ المفاهيم المعرفية التي يَستمد مِنها المجتمعُ شرعيته الوجودية ومشروعيته الأخلاقية.

والثقافةُ لَيست كُتلةً مِن الطُّقُوس المُقدَّسة أو التقاليد الشعائرية الجماعيَّة ، وإنَّما هي تجربة فكرية مُستمرة في رُوح الحياة ، وتتوالد في جسد التاريخ ، وتخضع للمُسَاءَلَة والنقد والنقض.

وهذا النشاطُ الاجتماعي في التعامل معَ الثقافة ، هو الذي يَجعل الثقافةَ قادرةً على تحليلِ فلسفة صَيرورة التاريخ ، وحمايةِ أنساق الوجود لُغويًّا واجتماعيًّا مِن المَوت في الحياة .

الطاقةُ الرمزية في اللغة تُعبِّر عن الإبداع الثقافي، وتُعيد بناءَ تاريخ السلوك الإنساني على قاعدة الثَّورة المعرفية ذات الأبعاد الاجتماعية.

والسلوكُ الإنساني تَرَاكُمٌ تدريجي للمهارات الحياتيَّة، والوَعْي بها، وإدراك أبعادها؛ ويجب أن يُحيط الوَعْيُ والإدراكُ بالإفرازات اللغوية المُتجانسة كي يَستطيعا تحديدَ مسار السلوك الإنساني، من أجل صياغة حداثة ثقافية قادرة على احتضانِ التغيُّرات النَّفْسِيَّة في كِيَان الفرد، واستيعابِ التقلُّبات الوجودية في كَينونة المجتمع.

وهكذا، تُسَاهِم الثقافةُ في تَحَرُّر الفرد، مِمَّا يَجعله يَقوم بِمُهمته في تحرير الأنساق الاجتماعية مِن القُيود المُنهجية التي تَصنعها سياسةُ الأمر الواقع.

وكُلُّ عملية تَحَرُّر فردية هي بالضرورة عملية تَحرير جَمَاعِيَّة، وكُلُّ ثقافة هي حَلْقَة مِن حَلَقَات التاريخ، الذي لا يُمكن تحليل مساره إلا باستحضار قُوَّة اللغة رمزيًّا ومعرفيًّا وواقعيًّا في المُجتمع، والمجتمعُ _ أوَّلًا وأخيرًا _ هو فضاء من الرموز، التي تَلِدُ نَفْسَها بِنَفْسِها، وتتكاثر باستمرار، وتصنع فلسفتها الخَاصَّةَ من أجل تكوين تصوُّراتها للذاتِ والآخَرِ والعَالَمِ.

وإذا كانت الثقافةُ جسدًا للمُجتمع، فإنَّ اللغة رُوح هذا الجسد، في كُلِّ تحوُّلاته وانبعاثاته.

وإذا أرادَ الفردُ تحقيقَ معنى الخُلود، فيجب عليه أن يَزرع أحلامَه في داخل اللغة، لأنَّها الحاملةُ للدَّلالات الاجتماعية، والعابرةُ للأجناس الفكرية المُتداخلة، والمُسيطرةُ على صراع الرغبات والدوافع، والمُتَجَاوِزَةُ للزمان والمكان.

التعليقات مغلقة.