إعداد مبارك أجروض
للعاطفة تأثير قوي على الإنسان والحيوانات، فقد أظهرت العديد من الدراسات أن معظم ذاكرة السيرة الذاتية غالبًا ما تحتوي على أحداث عاطفية، فهي ذكريات يمكن عادة استرجاعها على نحو أكبر بكثير وأكثر وضوحًا وتفصيلًا من ذكريات الأحداث المحايدة.
ويمكن ربط عملية استرجاع الذاكرة العاطفية بتطور الإنسان، فلقد عُزز سلوك الاستجابة للحوادث البيئية في بداية التطور ووصفه بعملية التجربة والخطأ، واعتمد العيش على الأنماط السلوكية التي كُررت أو عُززت خلال حالات الحياة والموت، وأصبحت عملية التعلم هذه جزءًا وراثيًا في البشر وجميع فصائل الحيوانات ويعرف ذلك بغريزة الكر والفر. تستثار هذه الغريزة من خلال المحفزات المؤلمة جسديًا أو عاطفيًا التي تقوم أساسًا بخلق نفس الحالة النفسية التي تعزز استرجاع الذاكرة من خلال إثارة النشاط العصبي الكيميائي، فيؤثر على أجزاء الدماغ المسؤولة عن ترميز واسترجاع الذاكرة، وقد أُثبت تأثير العاطفة في تعزيز الذاكرة في عدد كبير من الدراسات المختبرية بالإضافة إلى دراسات ذاكرة السيرة الذاتية من خلال استخدام المحفزات ابتداءً من الكلمات إلى الصور والعروض التقديمية، ولكن لا تقوم العاطفة دائمًا بتعزيز الذاكرة كما هو موضح أدناه.
من هنا فإن العاطفة تعبّر عن حالة طبيعية لا واعية نابعة من ظروف المرء أو مزاجه أو علاقاته مع الآخرين، أما الذاكرة فهي القدرة العقلية التي يخزن فيها الدماغ المعلومات ويتذكرها أو يستعيدها عند الحاجة إليها. وبين الذاكرة والعاطفة تفاعل مستمر؛ فقد وجد أن العاطفة تعمل بمثابة المسمار الذي نثبّت من خلاله تجارب محددة في حياتنا، ونجعلها لا تُنسى، ولكن كيف تؤثر فعلياً العاطفة على بنية الذاكرة في جميع مراحلها ؟
* كيف تؤثر العاطفة على الذاكرة ؟
ـ تجاهل زمن الحدث
لنفرض أنك قضيت إجازتك الصيفية في جزر المالديف الجميلة، عندها ستركز في ذاكرتك على أجمل تلك اللحظات وأحبها (أو ربما أسوأها) إلى قلبك متناسياً زمن الرحلة كله. وهذا يعني أن عملية التذكّر ليست مجموع كل الأوقات التي عشتها في أية تجربة، وإنما تؤكّد الذاكرة على الحدث الذي وقع فيه انفعال عاطفي (سواء كان جيداً أو سيئاً).
ـ عبارة “كانت على لساني”
يستخدم الكثير منا عبارة: لقد “كانت على لساني” في موقف اختبار أو حوار، ليعبّر بها عن أنه يتذكر الفكرة أو الموضوع لكنه في لحظة الاختبار أو الحوار فقدها، والسبب يعود في ذلك إلى وجود ضغطٍ نفسي أو حالة من التوتر اللذين يؤثران على أداء الذاكرة الإدراكي فتكون النتيجة غير مرغوب بها. الحل في هذه الحالة هو الانفعال بشكل معتدل مع الحدث، ففي حالة الانفعال المرتفع سيكون تركيز الدماغ ضيقاً، وفي حالة الانفعال المنخفض لن يقوم الدماغ بالتركيز، وبالتالي فإنه سيسمح بتدفق المعلومات بشكل انسيابي من الذاكرة.
ـ المزاج والذاكرة
ربما نلاحظ أننا عندما نكون في حالة مزاجية جيدة فقد نستذكر تجاربنا الناجحة في حياتنا، وفي المقابل قد نستدعي ذكرياتنا السيئة عندما نكون في حالة مزاجية سيئة. وهذا يعني وجود ارتباط وثيق بين حالتنا العاطفية التي نعيشها الآن، واستذكارنا للتجارب التي تماثلها عاطفياً، فالمزاج ينشّط كل ما يرتبط بحالته في ذاكرتنا.
ـ تنشيط أداء الذاكرة
وجد الباحثون أن العاطفة لم يكن لها دور هامشي في نشاط الذاكرة (المكانية والزمانية)، بل إن المحفّزات المثيرة تحسن من أداء الذاكرة من ناحية التدقيق في تفاصيل البيئة المحيطة. وقد توصلوا لذلك من خلال دراسة المحفّزات الإيجابية والسلبية المرتفعة، والمحفّزات الإيجابية والسلبية المنخفضة، وقد تبين لهم أن المحفّزات الإيجابية المرتفعة تم تذكرها بشكلٍ أفضل مع التفاصيل البيئة الزمانية والمكانية من تذكر المحفّزات السلبية المنخفضة. أي أن للعواطف تأثيرا على عملية التذكر، خاصة عندما تقترن بمثيرات إيجابية عالية.
ـ ذاكرة الألم العاطفي
يشيع بين الناس عبارة: “إنه من السهل نزع المسمار الذي تمّ دقه في الجدار، لكن ليس من السهل محو أثره”، ويبدو أن لهذه العبارة، التي تمزج بشكل غير مباشر بين الذاكرة والجرح العاطفي، دلالة علمية صحيحة، فكثير ممن يتعرض للإيذاء بوساطة الكلمات يتذكرها أكثر مما لو تعرّض من الشخص نفسه للإيذاء الجسدي. ولهذا الإيذاء اللفظي (أو العنف اللفظي) أضرار نفسية تتفوق على نظيرها الجسدي، خاصةً مع الأطفال، ففي دراسة قامت بها جامعة فلوريدا في الولايات المتحدة، وجدت أن الأشخاص الذين تعرضوا لأي نوع من أنواع الإهانة أو السخرية خلال مرحلة طفولتهم يصابون بالاكتئاب والأمراض النفسية بنحو ضعفي أولئك الذين لم يتعرضوا لها.
ـ تقوية الذاكرة
يبدو أن لتأثير العاطفة على الذاكرة دورا فعّالا في حماية وجودنا أو سعادتنا في هذه الحياة، فكل واحدٍ منا لا تفارق مخيلته تلك اللحظة التي شاهد فيها أول أطفاله يولد ويخرج للعالم، لحظة راسخة ومتمكنة من أعماق الذاكرة، بكل ما فيها من عواطف أبوية جيّاشة إلى درجة تدمع العين أحيانا. فالأحداث المشحونة عاطفياً تبقى في الذاكرة طويلة الأمد أكثر من تلك المفرّغة من أية عاطفة.
ـ بين الملل والتركيز
يلعب عنصر المفاجأة دوراً كبيراً في لفت انتباهنا نحو أحداث أو أشياء معينة، خاصةً تلك التي لها علاقة وارتباط بحياتنا، ويمكن لذلك أن يرتبط بالذاكرة أيضاً. لنفرض أنك كنت في مجلس مع أشخاصٍ آخرين وتستمعون لحديثٍ مملٍ، حيث الصمت سيد الموقف بالنسبة لجميع الجالسين، وفجأة حدثت فرقعة كبيرة لألعابٍ نارية بجوار المجلس، عندها سيتغير مجرى انتباه الجميع نحو الحدث المفاجئ، وقد يتركون مجلسهم الممل ذلك ويذهبون لمشاهدة الألعاب النارية، وستجد أن الجميع يتحدث ولزمن طويل: أنهم بينما كانوا جلوساً في ذلك اليوم (الزمان) في ذلك المجلس (المكان) حدثت فرقعة مهولة للألعاب النارية بجوارهم، وكيف أنهم نسوا مجلسهم وما يسيطر عليه من ملل.
* الاستنتاج
كان يقال لنا قديماً إذا أردت أن تتذكر أي شيء وبشكل دائم فأشرك أكثر من ذاكرة في الوقت نفسه، وقد كانت قاعدة صحيحة وقوية جداً جرّبتها بنفسي شخصياً، مثلاً عندما كنت أريد تذكر درس من الدروس التي سأتقدم بها للامتحان، كنت أشرك الذاكرة البصرية (بالنظر المركّز) والسمعية (بالقراءة بصوت مسموع)، واللمسية (بكتابة الدرس على ورق مسودة غيباً بعد حفظه)، وحقيقةً أنني، بعد أكثر من عشرين سنة، ما زلت أتذكر تلك الدروس عندما تستدعيها الذاكرة في أية مناسبة. ونزيدكم من الشعر بيتاً أننا إذا أردنا أن نتذكر أي شيء يمكننا الاستعانة بالعاطفة الإيجابية أيضاً لنتمكن من تثبيت ذكرياتنا الجيدة ولا ننساها أبداً.
التعليقات مغلقة.