بدا العالم جد مختلف بدون “يحيى السنوار” و”حسن نصر الله”، ساد الهدوء، وعمت السكينة، وخيم الصمت على الكرة الأرضية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، لا من يعكر صفاء السلام العالمي، ولا من يبث الرعب في النفوس، لا من يهدد ولا من يعربد.
غادر من كان يلقي الخطابات قريبا من دائرة الصراع، ورحل من كان يشتبك من مسافة الصفر، ارتقى السنوار وحسن، الأول ظل يقاتل حتى آخر رصاصة، وحين فرغ مسدسه من الطلقات، وحين سقطت يده قربه، التقطها وضرب عدوه بها، عملا بوصية شاعر الشتات والناطق باسم المعاناة والآهات:
حاصر حصارك لا مفر
لا إخوة لك يا أخي،,,لا أصدقاء !
يا صديقي، لا القلاع !
لا الماء عندك، لا الدواء، لا السماء، ولا الدماء
ولا الشراع ولا الأمام ولا الوراء..
حاصر حصارك …لا مفرُّ !
سقطت ذراعك فالتقطها !
واضرِبْ عدوك…لا مفر…
وسَقَطْتُ قربك، فالتقطني !
واضرب عدوك بي، فأنت الآن :
حرٌّ
حرٌّ
وحرُّ
والثاني، الذي حرس بيروت لسنوات طويلة، فكان سيزيف الجنوب، حمل فوق ظهره صخرة المقاومة، دون أن يشتكى أو يصرخ من الألم، أو يطلب المساعدة من أحد، أحب الجنوب، وكان المتيم ببيروت، كان يعلم أنها اختبار الله، فهي القصيدة كلها، لهذا رحل في فصل الخريف وهو يدنو من الأبواب – أي الفصل- ، فتجسد حسن في هذه الأبيات التي خطها درويش منذ زمن طويل:
فرغتُ من شَغَفي ومن لهفي على الأحياء. أفرغتُ انفجاري
من ضحاياك , استندتُ على جدارٍ ساقطٍ في شارعِ الزلزالِ
أَجْمَعُ صورتي من أجل موتكَ
خُذْ بقاياكَ, اتخذني ساعداً في حضرة الأطلالِ.
خُذْ قاموسَ ناري وانتصرْ
في وردةٍ تُرمى عليكَ من الدموعِ
ومن رغيفٍ يابسٍ, حافٍ, وعارِ
وانتصرْ في آخر التاريخِ…
لا تاريخَ إلا ما يؤرِّخه رحيلُكَ في انهياري
قُلنا لبيروت القصيدةَ كُلَّها، قلنا لمنتصفِ النهارِ:
بيروت قلعتنا
بيروت دمعتُنا
ومفتاحٌ لهذا البحر . كُنَّا نقطة التكوينِ
كنا وردةَ السور الطويل وما تبقَّى من جدارِ
ماذا تبقَّى منكَ غيرُ قصيدةِ الروحِ المحلِّقِ في الدخان قيامةً
وقيامةً بعد القيامةِ؟ خُذْ نُثاري
وانتصرْ في ما يُمَزِّق قلبكَ العاري
ويجعلكَ انتشاراً للبذارِ
يمكن القول الآن، أن العالم أصبح متوحشا بعد رحيل اثنين من خيرة رجال الشعب العربي الحر، كلاهما مات واقفا مثل شجرة الأرز والزيتون، وكلاهما قدم للعالم حقيقة الكيان القذرة، التي لا يمكن لأي عاقل أن ينكرها بعد اليوم، حيث كان السنوار وحسن نصر الله المطلوبين رقم واحد لدى دولة الاحتلال، وكل قيادات (جيشهم) تقول أن (الحرب) لن تتوقف مادام “السنوار” و”حسن” على قيد الحياة، حيث ربطت ما تقوم به من دمار وتخريب، من تهجير وتقتيل، برأس الرجلين، لكن وعلى الرغم من استشهادهما، ما تزال الآلة الاستعمارية الإسرائيلية تواصل تطهيرها العرقي في حق الشعب الفلسطيني بشمال غزة، وما تزال تقصف جنوب لبنان، وتقتل المدنيين، الأطفال والنساء.
وهذا يكشف بالواضح، حقيقة الكيان البشعة، التي ظهرت بالواضح عند ارتقاء “السنوار” و”حسن” شهداء، فقد كان الهدف هو ضم شمال قطاع غزة، والسيطرة على رفح، ومحور فيلادلفيا، وبالتالي إخضاع جنوب غزة للحصار وللتجويع، قصد ضمه هو الآخر كهدف استراتيجي لدولة الاحتلال، في أفق التهام صحراء سيناء، الهدف الأسمى لدولة الاحتلال في المستقبل البعيد.
هذا الهدف-ضم صحراء سيناء- كان لا يمكن الحلم به في ظل وجود قطاع غزة قوي ومهيكل، بمقاومة قوية تطور نفسها كل يوم، وبحكومة لا تعترف بالاحتلال، لذلك نشاهد كل هذا الدمار، ولذلك نرى كل هذه المجازر التي لا يمكن إلا أن نسميها حرب إبادة جماعية.
فنحن أمام حركة استعمارية جديدة تضم الأراضي وتسيطر على كل شبر من فلسطين، بعد ضوء أخضر من (قادة) العالم، وبعد اكتفاء الدول العربية بدور المتفرج، وبعد عجز المنتظم الدولي الكبير على ردع (دويلة) بحجم النملة -وحتى ذلك الحجم مسروق- والتي تحدت القرارات الدولية، ولم تأبه بأحد. ولا يمكن وصف الوضع بغير هكذا وصف، حيث أننا فعلا أمام استعمار مختلف، يمارس تطهيرا عرقيا.
فماذا تبقى أكثر من حرق الناس وهم أحياء بالخيام؟
وماذا تبقى أكثر من إبادة عشرات الآلاف بدم بارد؟
وماذا تبقى أكثر من استهداف الرضع والنساء والأطفال ؟
وماذا تبقى أكثر من إخراج المستشفيات خارج نطاق الخدمات بقطاع غزة شمالا وجنوبا ؟
وماذا تبقى أكثر من قتل الصحفيين وهم نيام في سرائرهم؟
فعلا العالم أجمل من دون “السنوار” و”حسن”، بالنسبة للمجرمين الذين فاق إجرامهم كل التوقعات، فاعتقدوا أنهم بسطوا السيطرة على كل شيء، وأنهم الأمر الناهي…لكن ربما نسوا أن لا وضع يستمر على ما هو عليه، وأن دوام الحال من المحال، وأن الباطل مهما طال أمده زائل.
ولربما أغفلوا أن الطفل القاطن في صدر كل الأجيال سيبقى يعاديهم، ويقاضيهم…
التعليقات مغلقة.