بقلم : مصطفى منيغ
المُكَلَّفُ بعملٍ ما يَبْقَى )مهما بَلَغَ ذاك العمل مِن أهمية أو مستوى النّفع( دون ارتباط بإرادته الشخصية بَعْدَ مبادئه ، ومن تَمَّ مصلحته المُعزَّزة برقمٍ مصرفي يُوضَع في حسابه ، يُغري استعداده المشي على بساط يَمٍّ دون الانتباه أنه من البشر إن غادر يابسة الوطن غَرقَ بما مَلَأَ به جَيْبَيْه ، فيعود غير صالح حتى للذِّكرى إذ الفشل سلاح أسراره غير معروفة لديه ، لذا الإقناع تَيَسَّرَ لي حالما اكتشفتُ جُلَّ نقط الضعف فيما كان لزاماً عليَّ إقناعهم من أناس تغلّبَت على ضمائرهم أنانية استحواذ ما يضمن لهم العيش الذي اختاروا قَدْرَه بعيداً عن أي مُؤثِّرات عاطفية ، تجعل الجزائر الوطن ولو في المرتبة الثانية ، لا تعني عندهم إلاَّ الانتساب في بطاقة تعريف ، وهنا يختلف الجزائري البسيط في عظمته المكتسبة من المشاركة الفعلية التي غيَّبت لمرحلة من حياته الابتسام أو الراحة أو التمتع بحقوقه المشروعة كإنسان ، يختلف عن الجزائري الذي وَجَدَها في الوضعيتين (تحت الاستعمار وفوق الاستقلال) معبَّدة بما يستمرّ فيه على هواه ، كنبتة تطفَّلت على نخلة تمتصُّ من جذورها ماء الحياة ، وتحتمي بقوة جذعها كي لا تجرفها عاصفة رملية تساعد الطبيعة على تنظيف نفسها بنفسها ، جزائري يحنّ لفرنسا ويغتنم حاجة الجزائر إليه ، فيلعب على الحبلين ، مهما وجدَ الغنيمة وَثبَ صوبها ، ليصرف بما كسب منها على شهواته في الاتجاهين الداخلي والخارجي . مِن حظّ الشّعب الجزائري أن النوع الأخير من الجزائريين ، عددهم قليل ، و مقامهم باهت ، ونجاحهم مؤقت ، ومكاسبهم تتبخّر مع الحرام ، وذكراهم معرّضة للمسح والتبدُّد . الهواري بومدين اعتمد على جزء من هؤلاء جلباً لتأييد فرنسا لمباركة قراراته من جهة ، وتحقيق سيطرته بالكامل على دواليب حكم مهدَّد ذات يوم من عمر الزمان بالانتهاء مع حلول تغيير يفرضه الشعب لتخليص حبيبته الجزائر من عشق وَهْمٍ ، ما أضاف لها غير الفقر وهي من أغنى الدول . لو كانت المخابرت الجزائرية قرأت بعمق ما وراء سطور نصّ مسلسل “السُّنبلة الحمراء” الذي قدَّمتُه لتنتجه مسلسلاً مذاعاً عبر الأثير الإذاعة والتلفزة الجزائرية ، لتبيَّن لها ما أناضلُ من أجله حتى داخل الجزائر ، لتَتَّخِذَ موقفاً يحقِّق على يديها إصلاح لا يخدم الحاكم المستبدّ بل الحاكم العادل في تلك المرحلة ودم الشهداء لم يجف بعد ، خدمة منطلقة من حماية الشعب المحقِّق معجزة الانتصار على فرنسا المشهود لها آنذاك بالقوة التي لا تُقهر ، بدل الانبطاح حيال رجلٍ لم يكن كفاحه يفوق كفاح أيّ فلاَّح قروي مغمور في أي جهة من تراب الجزائر الشريف ، المروي بعرَق نساء ورجال تلك البداية المباركة لمعركة استمرت في حصاد أرواح طاهرة نالت الشهادة ، وخيَّب الهواري بومدين تضحياتها الجسيمة تلك ، بما تميَّز حكمه بالانحياز التام لطعن الدولة الجارة التي حَمَتْهُ وأطعمته وهو في مدينة من مدنها الموقّرة “أَحْفِيرْ” يعمل في محطة للوقود . لو قرأت تلك “المخابرات” ، وفيها مَن يتقن بالفعل القراءة التحليلية المتفحِّصة بمجهر التركيز على أدقّ التعابير المُستخرجة منها شَفرَة التخاطب بين الألباب الذكية المُرسِلَة وقرائنها النابغة المتلقِّية ، لاستنتاج المقصود الفارض التعامل معه ، بما يلزم من التضامن الايجابي أو المواجهة للدفع بالتي هي أقوم انجازاً للسِّلم الاجتماعي والأمن الداخلي الوطني ، لكنها مجرد جهاز مُكتفي بالقشور ، حتى لا يكتشف الأسباب الحقيقية ، فيندهش من تحمُّله الجزء المُؤثر من مسؤولية تدحرج البلد لما لا يُحمدُ عقباه ، بتطبيق سياسة الوجه والقناع في وقت واحد ، لتعمَّ الضبابية في التعامل العمومي الرسمي ، و ينسلخ التنسيق لتلبية الحاجيات اليومية للشعب في وقتها ، لتطغى فوضى الفساد ، فتتغلَّب المحسوبية والانتقائية والزبونية معظم المجالات ، فتصبح الأغلبية في حاجة لتدخُّل حفنه من المسؤولين ، لتوزيع قطرات لا تليق بسَيْلِ خيرات أمة ، تعيش كأنَّها غريبة عن نِعَمِ بلدها ، وإن علمت بحجمها وُضِعت في تعتيم إعلامي مدروس ، لتبقى الكنوز مَكْنُوزَة حيث أراد المُكْتَنِز الكنَّاز ، لأسباب عرّ الزمن على أجزاء منها ، تكفي لحصول غليان جماهيري ، يُبدِّل الحال بأحوال أحسن وأفضل وأقوم وأليق ، بالشعب الجزائري العظيم .
… من مسلسل “السنبلة الحمراء” مشهد أعاد اهتمام جبهة التحرير الوطني إلى مراجعة تصرفات البعض في منح صفة مجاهد لبعض المحرومين منها تجسَّد كالتالي :
القاضي يسأل : – ما خطبُكَ أيها المواطن ، أفصح بالدليل أنك مظلوم وهذه المحكمة ستنصفكَ إن كنت بما تقدِّمه من إثباتات موثقة بما يقرضه القانون على حق . ابتسم الرجل ابتسامة فاهم على طريقته كمجرب لما احتضنت الحياة السائدة في الأيام الأولى للاستقلال من تخبُّط وتداخل أفرز من المشاكل الاجتماعية ما لا يجمعه مجلد ضخم تضاعف حجمه بانتقال السلطة من إلى ، حيث يخاطب القاضي بلغة جديدة على قاعات المحاكم آنذاك قائلاً : لم أعد بعد يا سيدي القاضي الموقَّر، حاملا لقب مواطن ما دمتُ لا أتمتع في بلدي هذا ولو بأدنى حقوق ، شبيه إنسان أعيش في قرية جرَّدها الاستعمار من جل مقومات الحياة ، تاركا ما أطلق عليهم الرُّعاع ، بغير رعي يمارسونه ولا أنعام ترعى تحت حراستهم ممَّا عجل فينا القيام بما يمكننا مشاركة الجزائريين الأحرار في كل مكان ، لإعلانها ثورة نفنَى بها عن آخرنا أو يبقى بعدها مَن يحكي عن أهوال مواجهات ما ملكنا خلالها غير الصدور العارية ، والسواعد المُتعبة ، والمناجل التي اعتلاها الصدأ ، فسقط منا الشهداء من شيوخ ونساء ، منهم زوجتي وثلاثة من بناتي ، وأخيرا جاء علي الدور لأصاب برصاصة أوقعتني أرضا أنزف دماً ، ولولا بعض الأخوة الذين حملوني لبيت من بيوتهم ، ليُخرج أحدهم الرصاصة من كتفي ، لكنتُ الآن ضمن الذين رحلوا لرحمة الله سبحانه وتعالى ، مرت الأعوام سيدي القاضي وكلما طالبت المسؤولين بإعطائي صفة مجاهد ، لا يرفضون وحسب ، بل منهم مَن تصرَّف معي تصرُّف ذاك الفرنسي المستعمِر الذي أراد قتلي ليرث ارضي وأرض أجدادي وأحفادي من بعدي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهكذا أصبحتُ متشرداً متسكِّعاً نهاراً ونائماً داخل حمامات العاصمة التقليدية التي تتحوَّل لفنادق تحتضن أجساد الكثير من الجزائريين أمثالي ، المحرومين من السكن والعيش الكريم والهندام النظيف و الحق المشروع في التمتع (وحسب قدري) بخيرات الجزائر التي أعطيتها من فلذات كبدي ولحمي ، فأي مواطن أكون يا سيدي القاضي ؟؟؟، تطلب مني الدليل ، بالتأكيد أحضرت لمحكمتكم الموقرة دليلين وليس بواحد ، الدليل الأول هذه الرصاصة التي لا زلت احتفظ بها لمثل الغاية ، أما الدليل القاطع الثاني انظروا إليه من خلال هذه القنينة التي وضعت وسطها سنبلة نزعتها من سنين ملطَّخة كانت باحمرار دمي ، النازف من جرح الإصابة التي حدثتكم عنها سابقا ، تمعنوا في السنبلة الملونة بما جفَّ فوق حباتها اليابسة ، ابعثوا بها و بي لأي مختبر لتحليل الدم الجاف المأخوذ من السنبلة ، بالدم المتبقَّى في شراييني ، إن تبقَّى منه شيء . العلم قادر (إن لم يكن داخل الجزائر ففي أي دولة مجاورة) ليشهد ويمدني بالوثيقة الدليل أنني كنتُ من المجاهدين الجزائريين الشرفاء، الذين من العار أن يصبح حالهم على هذا المنوال. و لك سيدي القاضي في محكمة الاستقلال هذه واسع النظر. القاعة يشوبها صمت لا يكسِّره سوى صوت القاضي، وهو يعلن في تأثُّر بالغ :- الحكم بعد المداولة .
التعليقات مغلقة.