الرباط : مصطفى منيغ
لأول مرة شعرتُ أن جانباً مغربياً مُعيَّناً له حضور متقدِّم ، لم يُكتَشَف من الجانب الجزائري المقابل الاختصاص ، عِلماً أن المغرب الرسمي كما تهيَّأ لي ساعتها ، ما تركَ أمراَ بمثل الخطورة عليه يفلت من مراقبته المضبوطة على مقاييس، ما يفرض منها التدخّل الفوري السريع ، بالمتوفِّر من الآليات و الكفاءات البشرية ، في الأدنى أو الأقصى حسب الحاجة والموضوع ، أو التدخُّل المباشر المُسترسَل المُستمِر ، بواسطة عناصر مدرَّبة ، أو التدخّل البطء لغاية جمع الأسباب والمسبَّبات في كِيسٍ واحد ، و بالتالي التدخُّل لملاحقة ما يكون بعيداً لظروف لعبت مَرحلياً لصالح الأخير أو الآخرين ، وهذا النوع من التدخُّل يتطلَّب وسائل مغايرة ، وأساليب تُقارب المُستَعمَلة لدى المعنية من الدول خارج الحدود عربية كانت أو غربية . بقدر ما كنتُ فَخوراً بما اكتشفتُ بقدر ما سادني تفكير للانتباه المُفرط أكثر وأكثر ، لقد دخلتُ (على الأرجح) عالم لا يرحم الأغبياء ، مهما كانت نيتهم وانتماءاتهم لمن ينتمون إليه صادقة . عالَم سلاحه الذكاء المتجدِّد للأذْكَى فالأذكى ، وأدواته الصبر وتحمُّل مخاوف الهواجس القالِبَة الدَّقْيق للمُعِيق ، والصالح للطالح ، والأسود للأجْوَد ، وكلّ حَركةٍ لخطر داهم يتعقَّب صاحبها . عالَم أقوَى ما فيه توظيف الإخلاص للوطن كإرادة غير عابئة بما يختبئ خلف مستقبل قادم ، ما دام بالمُقدَّر المكتوب المحتوم مختوم ، والأسوأ ما فيه الثقة إن وُضعَت دون سندٍ منطقي أو قانوني في غير محلها ، أما وَسطه التفكير وحيداً فيما مضى خيره وشرُّه ، وما هو حاضر بكيفية تضمن بها النجاة غداً من مباهج النجاح ، أو صهاريج الفشل المَكْبُوبَة على الوجدان تُتْخِمه بأعمق الجراح .
… توصلتُ إلى هذه الحيرة التي أسعدتني حقاً، وإن كانت حمَّلتني فوق طاقتي، ممَّا جعلني أفكِّر في مبادرة توقفني عند حَدِّي، بدلَ أن أُقْذَفَ لقفصٍ أنضَمُّ داخله لأسدٍ و نمر وقرد وحمار، ليختار منا الأول مَن يفترس وبعده الثاني فالثالث فالرابع. مَنْ لا يعرف الجزائر الرسمية خلال تلك المرحلة ، برئيسها الهواري بومدين ، ومخابراتها العسكرية ، وحجرات التعذيب المحفورة تحت أرضية بعض المؤسسات الأمنية ، مِن حقه أن يستخفّ بالأمر لحد الضحك وكأنه يسمع لنكتة ، ولكن مَن تمكَّن مثلي من الإطلاع المباشر أحيانا بالصدفة أو غير المباشر لما كان يحدث مرات ، وجَالسَ (خلال مناسبات فرضت نفسها لحضوري) المسؤولين وبخاصة مَن قلوبهم يشتكي من صلابتها الحجر ، يتصايحون متبجّحين بالدفاع عن الجزائر لتصل القمة مهما كان الثمن تنغيص حياة الجيران ، مَن كان مثلي عارفاً بما ذكرتُ النَّزْر القليل المتواضع منه وحسب ، لشابهه الرّعب وهو خارج تلك البلاد ، أمَّا داخلها فتلك وضعية لا يحس بشديد ضيق منها ، بل بحبل مشنقة تُسكت أنفاسه بلا محاكمة ، وإنما هي وثيقة أمر صادر على أعلى مستوى، تتضمَّن التهمة وحجم العقاب ، تُوضَع في ملفّ لحين ، يُحْرَقُ في وقتٍ من الأوقات لتبديد الأثر بشكلٍ قطعيّ .
… سبب هذا الكلام ما نجم عن لقاء تم بيني وكاتب ياسين وتلك المجموعة من قادة البوليساريو بحضور الجنرال (…) المشرف على ما أطلقَ عليها حفلة استقبال أعدت باستعجال على شرفنا في مكان قريب من “تندوف” ، خلال المناقشة المفتوحة التي دارت بيننا حول الجبهة في أولى خطواتها بمباركة الجمهورية الجزائرية ورعايتها الواسعة الأفق ، لفت انتباهي منظر أحد هؤلاء القادة ، الذي أراد به مراسلة عقلي بما يُشغله لإيجاد ما أضمن به التقرُّب لذاك الشخص بما يكفي ليخاطبني حرفياً : – “سأسلِّمكَ حقيبة بها عَلَم ملقوف على أمانة عظيمة ، افعل بها ما يمليه عليكَ ضميركَ” ، بعدها غاب للحظات ، ثم عاد بحقيبتين جلديتين، قدَّم إحداهما لكاتب ياسين والثانية مدَّها لي ، بهدوء لا هدوء بعده ، بل مبتسماً ابتسامة الخارج من تجهُّم تحمُّل عبءٍ ثقيلٍ أتعبه بشكل لا يطُاق . طوال رحلة العودة شعرتُ بتوتر اتعب تفكري ، الباحث عن أي سبب يقنعني بطبيعة تصرُّف ذاك الصحراوي المغامر بما حدثني من أجله ، كأمانة لها ارتباط باختيارات ضميري ، في تصريفها بما تستحقّ من عناية مثالية ترقى للغالي إن تمَّ إدراكه ، كاتب ياسين فتح حقيبته وأخرج منها علماً المفروض أن يلوِّح َ به أحد الممثلين في مسرحية “المسيرة الحمراء” كرمز دولة لا زالت في رحم الجزائر ، المقبلة على ولادتها أعجوبة تتحرَّك بصعوبة بين كثبان “تندوف” تحت حرارة الفاقة لمستلزمات حياة دولة في القرن العشرين ، فمها بضع مرتزقة بلا أسنان ، يرضعون من بقرة نفط الشعب الجزائري للأسف الشديد . انتظرتُ حتى الصباح بعد ليلة حسبتُها أطوَل من العادية بسبب الحقيبة ، التي ستكون نقطة تحوُّل فيما تبقَّى من إقامتي داخل الجزائر وليس في “لامدراغ” وحدها ، شعور ما خيّب ظني ، قادني لأخذ قرار استعجل به سير وسائل تنفيذ العملية مهما كانت العواقب الوخيمة التي أتصور حِدَّتها ، فلا أجد غير الصبر يؤخِّرني عن ذلك ، والاكتفاء بتسليم أمري لمن خلقني سبحانه وتعالى . أخيرا فتحت الحقيبة لأجد “العَلَم” ملفوفاً على كراسة مكتوبة أوراقها بخط عربي واضح على شكل تقرير مفصَّل ، لم يترك معلولة تتعلق بالبوليساريو إلا وتعرَّض لها كأنه ليس من تلك الجماعة ولا علاقة له بها وهو أحد قادتها ، ألاَ يدعوا هذا للحيرة ؟؟؟ ، كيف ؟؟؟ ، ولماذا يختارني بالذات ليسلمني ما يثبت عليّ وعليه تهمة التآمر بكل الدلائل المؤدية لتطبيق أقصى عقوبة علينا معاً ؟؟؟. (يتبع)
التعليقات مغلقة.